ما كنت انفك عن الدعاء لأعود إلى أحضان الوطن بعدما أكلت الغربة مني أحلام الصبا وعشت في غياهب الذكريات, في بلد كلما احتضنني ازداد الصقيع في داخلي, وكلما أعطاني يعيدني إلى حرماني الأول, اكتشف باغترابي إن روحي متعبة من يدي الغربة المشرعة التي أمسكتهما لتشعراني بالدفء أو الاطمئنان والعكس ما اشعر به الآن, فحينما اغتربت تخليت إراديا عن جزء من روحي وقلبي ومضيت دون أن أدرك خطورة ذلك الطريق الوعر الذي اسلكه..
وحينما توقفت لأستريح كان الوقت قد مضى دون رجعة فالسنوات لا تعود أدراجها, كان يخيلّ إليّ إن في الأفق سلم وردي لأثبت ذاتي بعد إن حطمته ويلات الحروب, لقد كانت اكبر حماقاتي حينما حزمت حقائبي ورحلت.
دقت أجراس العودة جمعت شتات روحي المبعثرة بالأشواق, إلى أهلي والأصدقاء, إلى قبر أبي, واه من الشوق الذي لا يبرحني بتقليد الزيارة للائمتي الأطهار.
ها أنا بعد السنوات العجاف وطأت قدماي ارض مدينتي (النجف الاشرف) ليس هناك حجم اصف به فرحتي في ذلك المساء، كنت أود أن أرى الفرحة مرسومة على شفاه كل من أراه أمامي, ترجلت مسرعا لأصل إلى حجر أمي, ذلك الحجر الذي يكون مرسى لكل آلامي, وهي تربت على كتفي كأني طفلها الصغير الذي لم يكبر يوما, إلا إني وجدت مدينتي تنوء حزننا هي وساكنيها, ورايات ترفرف في سمائها تنتشح بالسواد, وأصوات تضج بالعويل, وصوت قروع الطبول وضرب الزنجيل, قارئ يرتل القرآن وآخر يندب الإمام.
وثبت مكاني أتطلع لذلك الكم الهائل من الحزن الذي غطى الوجوه والدموع تذرف من المحاجر قلوبهم تقطر أسى لفقيدهم, سألت شيخا كان يجهش بالبكاء, كأنه طفل صغير أضاع أبويه، رمقني بنظرة اندهاش وقال لي: ويحك انه اليوم الذي بكت فيه اهل السماء، انه اليوم الذي قتل فيه الوصي والولي وخير خلق الله بعد النبي..
في مثل فجر هذه الليلة استشهد أبا الحسنين الإمام علي عليه السلام أمير المؤمنين فقد روي انه كان جالسا سلام الله عليه في بيته رأى رؤيا وإذا برسول الله يقول له ستأتينا قريبا, فنهض من نومه واجتمع بعياله وقال لهم (قال لي جدكم إنني آت له ولأمكم الزهراء) ثم خرج من بيته وذهب إلى المسجد وإذا هو بعبد الرحمن بن ملجم لعنة الله عليه نائما على بطنه فقال له أمير المؤمنين لا تنم على بطنك فهي نومة الشياطين, وقال له: لو تردني إن أخبرك ما تحت ردائك لفعلت.
كبر المؤذن فذهب ولي الله إلى الصلاة, سجد السجدة الأولى فقام للثانية, وبينما هو يسجد سجدته الثانية قام اللعين ابن اللعين وضربه على أم رأسه بالسيف المخبأ تحت ردائه, فسقط أمير المؤمنين على الأرض مخضبا بدمه الطاهر.
بعدما أنهى الشيخ حديثه تهالكت قواي جلست على الأرض أود أن أعفر خدي بترابها ماذا أخذت مني غربتي, فقد أنستني ذكرياتي في إحياء طقوس تلك الفاجعة من كل عام في شهر رمضان.
أودعت حقائبي عند الشيخ وغصت مع المعزين اضرب بصدري بكلتا يداي, لعلي أعوض ما فاتني في سنوات بعدي عنك واذرف دموعي حزنا لمصابك يا سيدي, وألما لأني نسيت يومك يا مولاي, وفرحا لأن الله اختار أن أعود إليك في هذا اليوم لأكون مع المعزين.
وعلى أعتاب باب ضريحك الطاهر تسمرت مكاني لأشم عبق رحيق الياسمين المنبثق من تحت ثراك الطاهر, انظر إلى الموالين الذين جاءوا من شرق البلاد وغربها ومن مختلف بلدانها, ليطوفوا في فنائك وهم يهتفون مع أول ساعة الفجر: تهدمت والله أركان الهدى.
اضافةتعليق
التعليقات