كانت ذاكرته تعزف بلحن بطيء على مسرح الالم حين راحت تستجوبه عن ماضي رحل وترك ندوبا على القلب وآثار الألم على قسمات الوجه وبدّل شعر الرأس الى ابيض، لماذا غادرت ارض الوطن ياجدي وتركتنا نولد هنا في هذه البلاد النائية؟
كان قد هاج به الحنين فأطرق واحداث عمر مضى تتسابق امام عينيه، من اين يبدأ ليجيب على سؤال حطم حواجز حدودية واخرى زمانية وقرب المسافات ليجد نفسه شابا لتوه بلغ العشرين من عمره يحمل حقيبة على ظهره فيها القليل من الملابس والكثير من الألم، يغادر ارض الوطن حيث لا رجعة..
وقبل ان يجيب على سؤالها رفع رأسه ليوصيها برجاء؛ إن انا قضيت نحبي ياحبيبتي فأرسلوا بجثماني الى هناك ليدفن جسدي بين والداي في مقبرة العائلة، فإن تحملت العيش هنا في بلد غريب في الحياة فلا استطيع ان اكون بين الاغراب وانا في قبري ووحشتي.
اعادت السؤال بصيغة اخرى عله يجيب، مالذي اجبرك على العيش بين الاغراب مدى اربعين عاما من حياتك يا جدي؟
حينها لاحت في عينه تلك اللمعة التي تنبئ عن هطول الدمع الغزير وراح يروي سبب هجرته منذ اكثر من اربعين عاما..
كانت حياتنا بائسة مليئة بالمتاعب وكان ابي يعمل فلاحا في بستان احد الملاكين لجلب لقمة العيش لستة بنات وولد وحيد وزوجة، على الرغم من فقر والدي الا انه متدين لايمد يدا للحرام مكتفيا بالقليل من الرزق، يتمتع بنفس راضية قانعة، يسعى لكسب رزقه بعرق الجبين وكف اليمين لم تشرق عليه الشمس وهو نائم في فراش ولم يعود الى البيت الا بعد غروبها.
كان ابي يرى فيه الامل الذي سيرتاح من عناء الايام على يديه، ولأني كنت اصغر من جميع اخواتي فقد شهدت زواج ثلاثة منهن في تلك الفترة حيث تزوجن في عمر مبكر لما لنا من السمعة الطيبة بين الناس، وفي ليلة لم تكن بحسابات القدر ذاته اقتادوا والدي رجال الأمن الذين يحملون الاسم ولا يتمتعون بالصفة الى السجن بتهمة لايعرفها احد ودون محاكمة زجوا به في سجن لانعلم اين هو ومنعنا من زيارته..
ورغم ان الجميع يعلمون بنزاهة والدي ومدى امانته وايمانه الا انهم راحوا يصدقون مايقال هنا وهناك من اشاعات فلم تكتفِ القوات الظالمة بسجن والدي فحسب لا بل صادروا منزلنا الذي كان كل مانملك، وبعد فترة عامين مات والدي في السجن تحت التعذيب..
ولم يحضر جنازته احد ورحت انا الذي كنت ابلغ من العمر خمسة عشر عاما ووالدتي المرأة الكبيرة او تلك التي كبرت عمرا كاملا بعد تهمة والدي ودخوله السجن وموته مظلوما فقيرا لاستلام جثمانه، لتغسيله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه اخيرا ليرتاح مما رأى من انوع الالم الذي كان باديا على جسده وهو مسجى على دكة المغتسل.
وبعد فترة الحداد على والدي راحت والدتي تبحث عن عمل لتأمّن لنا لقمة العيش بعد ان صرنا نسكن بكوخ في بستان احد اقربائنا، وحتى تقنعني بإكمال دراستي راحت هي تعمل شتى الاعمال منها البيع في السوق ومنها العمل في البيوت ومنها العمل في ايام الحصاد كأجيرة تحت حرارة الشمس ولم افلح بإقناعها بتركي الدراسة والعمل بدلا عنها.
ومن حسن الحظ ان اخواتي تزوجن بعد مضي عام على وفاة ابي حيث تقدم لخطبتهن شبان من كبار العوائل فخفّ الحمل عن والدتي بعض الشيء بعد ان اعتادت الناس ظلم ازلام البعث واتهامهم الناس بتهم لاواقع لها واعتقالهم خلاصة الناس الخيرين بتهمة ارتيادهم المساجد.
عاد الجميع لمعاملته الحسنة الينا،وظلت تلك الارملة المسكينة تعمل حتى انهكها المرض بفعل الهم ولم تمضِ الكثير من الايام الا ولزمت والدتي الفراش ولم تستطع النهوض منه، كن اخواتي يتكفلن بأعمال البيت ومداراة والدتي بالمناوبة وانا تكفلت العمل بالاضافة الى الدراسة دون علم والدتي لتأمين الدواء والطعام ومصروف الدراسة ولم يستغرق مرض امي كثيرا حتى نامت نومتها النهائية الى جانب قبر ذاك الفلاح المظلوم وتركوني اقاسي مرارة الحياة من بعدهم.
شعرت باليتم والحزن الشديد الذي لم اشعر به حين وفاة والدي فكانت امي خير عوض عنه ولأني كنت اشعر بالحقد على ظالمي والدي اكثر من شعوري بالحزن على رحيله في حينها.
وتركت الدراسة في تلك السنة التي رحلت بها والدتي رغم انها كانت في اخرها ورحت اعمل واصرف اكثر ساعات ايامي في العمل..
في معزل عن العالم، منطويا على نفسي لا افكر سوى بالأنتقام، اوفر المال لشراء بندقية اقتنص بها ذاك الذي يسكن في نفس قريتنا ويأكل من خيراتها ويكتب التقارير على ابنائها لزجهم بالسجون يعذبون، هو من كان سبب فضيحتنا، وموت والدي مظلوما في السجن، وهو سبب وحدتي بعد رحيل تلك التي ماتت بحسرتها على زوجها.
هكذا كنت لا افكر الا بالانتقام، الى ان اهداني القدر هدفا جديدا بعد ان عاد ابن احد الجيران من بلاد المهجر بإجازة لزيارة اهله وعرض علي ان ارافقه في غربته بعد ان اصبحنا صديقين فقد كان هو ايضا يعاني من الوحدة، وحين احتسبت نقودي وجدتها تكفي لايصالي الى تلك البلاد..
ولما قاله من توفر العمل في تلك الدولة زاد حماسي، ورحت اودع اخواتي واحدة تلو الاخرى، على امل عودة قريبة، لم يعارضن هجرتي رغم انني سندهن في الحياة كما كن يقلن خصوصا وهن يعلمن ماكنت انوي فعله، فلم تفلح اي واحدة منهن بإقناعي عن الاقلاع حتى عن التفكير بالأمر، ودعتهن وعيونهن ملأى بالدموع.
ومن بين احضان ستة من الاخوات الحانيات اسلمت نفسي لأحضان الغربة التي كانت تقتلني وجعا على رحيل والداي وفراق بلدتهم دون الاخذ بثأرهم، ومنذ ذاك الوقت لم اعد لوطني فقد اخذت على نفسي عهدا ان لا اعود الا وانا جسد دون روح مادمت لم اخذ بثأرهم.
اضافةتعليق
التعليقات