حتى الآن لم يُسعفني قلمي لكي أكتب عن كل الأحداث التي تحصل في فلسطين وفي مدينة غزة تحديداً والتي بدأت منذ أول أسبوع من شهر أكتوبر وحتى الآن وقد مر سبعين يوماً على هذه الحرب الظالمة والتي لا تمت للإنسانية بصلة. كلما أردت أن أكتب شيئاً كان الأمر أكبر مما أستطيع تلخيصه وشرحه وتدوين انطباعي عنه، لم يكن مجرّد شيء يُكتب عنه ركوباً لأمواج الأحداث وتفاعلاً وقتياً أو ثورة ستخمد شرارتها بعد أيام معدودة كما يحصل في أي حدث عالمي أو محلي. يعتاد الإنسان كل ما يتكرر، حتى الوجع حين يضرب مراكز الألم في الدماغ بشكل مستمر، يصل الجسد لحالة من التخدّر والتعب والاعتياد رغم الأذى.
قضية فلسطين هذه المرة كانت مختلفة، مختلفة عن تلك القضية الدائمة والتي اعتدنا عليها منذ وعينا الأول في الحياة، لم تبدُ هذه المرة مجرد أناشيد أو أشعار أو هتاف يعلو وأدعية تصعد للسماوات في ابتهالات الأمهات والجدات. كنا نرى فلسطين في كتبنا المدرسية في الأمثلة التي في كتاب القواعد عن كان وأخواتها أو المبتدأ والخبر، "فلسطينُ حُرةٌ" يليه شرحٌ لفلسطين كونها مبتدأٌ مرفوعٌ بالضمة الظاهرة على آخره، و(حُرةٌ) خبرُها المشابه لها في الرفع والضم.. ثم ينتهي الأمر، وقد يكون من ضروب الحظ أن تأتي هذه الجملة في الامتحان، ما أسهلها، فقط (فلسطينُ حُرةٌ).
وندرس في الأدب والنصوص عن شعراء فلسطين مثل: (محمود درويش، سميح القاسم، وتوفيق زيّاد، عز الدين المناصرة، معين بسيسو، مريد البرغوثي، أحمد دحبور...وغيرهم).
ونحفظ قصيدة محمود درويش الخالدة:
على هذه الأرض ما يستحقّ الحياةْ
على هذه الأرض سيدةُ الأرض،
أم البدايات
أم النهايات،
كانت تسمى فلسطين،
صارتْ تسمى فلسطين..
سيدتي: أستحق، لأنك سيدتي، أستحق الحياة".
ونقرأ التعليق النقديّ للقصيدة ونحفظ عن مناسبتها ومقاصد الشاعر فيها ومعاني كلماتها وحياة الشاعر وآرائه السياسية والنزعة التمردية والثورية في هذه القصائد. يتدرج الأمر من كتب الدراسة إلى الحياة اليومية إلى خُطب الجمعة، وأدعية الكتب الدينية، والسياسة والاقتصاد والنقاشات بين الأهل والأصدقاء والإنتاج السينمائي والمسلسلات وأفلام الكرتون، يمكن القول باختصار إن فلسطين كانت ولا تزال قضية مفتوحة للمناصرة والحديث والاستهجان أو البكاء حتى. هذا كله كان في ما يسبق أكتوبر/ تشرين الأول المنصرم، هذه الثورة بالتحديد كانت صفعتها مدوية، صفعتنا بدأت من العمق الوجودي المخدّر فينا، وضحّت لنا أموراً لم نكن نتخيل أنها موجودة بل وإننا نرتكبها كل يوم! لأول مرة نصل مرحلة من الوعي لنعرف كيف إننا كنا جميعاً شركاء في احتلال هذه الأرض! كيف إننا دون إدراك كنا نقدم دعمنا وأموالنا للصهاينة على طبق من ذهب!
في حديثٍ للإمام الباقر (عليه السلام): "والله لتميّزنّ، والله لتمحصنّ، والله لتغربلنّ كما يُغربل الزوان من القمح".
قضيةُ فلسطين، قضيةُ التغيير والغربلة للضمائر الإنسانية وللوعي والإيمان بالله والهدف من الوجود. إنها اليوم تصبح المحك الفعلي للضمير، المعيار الذي يجب أن نعود له لنعرف أناسنا ومحيطنا، يكفي فقط أن تسمع رأي أحدهم عن القضية لتعرف جوهره وحسن نيته. جلست مع أشخاص مجدّوا إسرائيل وقالوا أن الفلسطينيين يستحقون ما يحدث لهم، أشخاص مثل هؤلاء تأكدت من أنهم لا يستحقون حتى إهدار صوتي في نقاش عقيم معهم. كانوا أناساً جشعين مشبعين بالأنانية، لم يكونوا ليستغنوا عن ساندويش أو نوع مفضل من الحلوى والشوكولاتة رغم علمهم أنها كلها ملطخة بدماء الشهداء.. كنتُ أراهم يتلذذون بالتهام الدم اكثر ممن يفعل ذلك بشكلٍ فعليّ لا مجازيّ.
في مقطع فيديو شاهدته على تطبيق الأنستغرام Instagram، كان يتحدث فيه شاب عربي عن الأمور الإعجازية التي تحصل في فلسطين، عن القوة الهائلة التي يحملها هذا الشعب، القوة والإيمان والتسليم الذي يجعلهم يطورون أنفسهم كل هذه السنوات ليواصلوا المقاومة والتمسك بالأرض! القوة التي تجعلهم أكثر صلابةً من أكثر البلدان ترفاً ورفاهيةً. يفعل الناس هناك أموراً لن تتخيل أنك قادر على فعلها، إن ساعات نومك المعتادة التي تتراوح بين 6 – 8 ساعات غالباً سيرتبك يومك إن تغيّر عددها، سيتعكر مزاجك ويهاجمك صداعٌ مزعج. من جانب آخر لن تُسعد بعدم توفر خبز جديد وساخن على مائدة الفطور، أو ستتذمر من كون الشاي قد برد وعليك تسخينه مجدداً، في حين إن هنالك وفي نفس اللحظة أم تحمل طفلها شهيداً بين يديها وتتمنى لو تستطيع أن تُرضعه أو تشمه لآخر مرة! وفي الوقت الذي يعاني شابًا من كونه لا يتمتع بحياة مثالية او زوجة الأحلام، هنالك طبيب يتلقى نبأ استشهاد زوجته وأطفاله وأمه وأبوه في نفس الوقت إثر قصفٍ طال منزلهم وضمهم الرُكام تحته وهو يواصل مداوة الجرحى الآخرين في المستشفى!
أيُ رؤية هذه التي تجعل الدنيا تكبر وتتسع كثيراً في عين البعض، وتصغر وتتضاءل في أعين آخرين! كيف يعيشون عيش الآخرة وهم لا يزالون في هذه الدنيا! كيف يودعون أطفالهم وكأنهم يركبون حافلة المدرسة التي تذهب إلى الجنة وسيلحقون بهم قريباً!؟
بعد أحداث فلسطين الأخيرة، والتي أظنها حاسمة لا حياد فيها ولا تراجع، ينبغي أن يخجل كلُ فردٍ فينا أن يعود لما كان عليه، أن يراجع كل تفاصيل حياته مراجعة بالغة الدقة، أن يتغير نهوضه صباحاً، أن يفارق السرير الدافئ وهو يتذكر من لا بيت له، ولم يذق طعم النوم منذ أشهر، أن ينظر لطعامه فلا يتذمر من أي شيء ولو أكل خبزاً يابسًا إذ هناك من يتحسر على شربة ماءٍ نظيف.. أن تُقدّر النِعم الجمّة التي نتمتع بها متعًة تامة لا حرمان فيها.
لا يرتبط الأمر هذه المرة بفلسطين بحد ذاتها أرضًا أو شعبًا، إنه يرتبط بالبشرية كلها، بغض النظر عن الدين والمذهب واللون والعرق والميل السياسي، هي صعقة كهربية تضرب عقولنا جميعًا لنتفكر في أي ضلالٍ كنا نسير! بين ليلة وضحاها تحولت علامات تجارية عالمية كان مدعاةً للفخر لمجرد أن تقول أن سترتك من الماركة الفلانية وحذائك من تلك الماركة ويعتريك زهوٌ وغرور، إلى جهات ممولة للإجرام والظلم وباعثة على النفور والقرف بل وتخلص كثيرون من أشيائهم التي كانوا قد اشتروها من هذه العلامات التجارية! واليوم بتنا نشعرُ بالخجل والعار لأننا كنا مغيبين إلى هذه الدرجة لنساهم في دفع أموال تذهب لتمويل جيوش الاحتلال وكأن لنا يد في عمليات القتل والتهجير دون وعي.
اليوم نقف أمام جبهتين، جبهة تقطر ظلماً وانتهاكاً ووحشية بشكل سافر وظاهر للعيان وباعترافهم وتصريحهم بكل تبجّح ووقاحة، وجبهة تتعرض لانتهاكات وظلم وعدوان وتهجير من الأرض والديار وهدم للمنازل وقتل للأطفال كذلك بشكل سافر وعلنيّ وخبيث، ولكن صحوة العقل والوعي واليقين من أن هذه هي جبهة الحق هو السلوان والمواساة التي تدفع هذا الشعب للاستمرار والمقاومة، ويدفعنا كذلك لتمحيص الحق من الباطل والاستيقاظ من السبات الذي دام طويلاً واعادة النظر في كل تفاصيل حياتنا، في ما نأكل ونلبس ونشتري وما نعلمه لأطفالنا والخطوط الحمراء التي يجب أن تُحدد بها جبهة الشياطين التي تكاثرت وتعددت وامتزجت بشكل مقنّع بجوانب حياتنا كافة، فسيطرت على الفكر وبرمجت العقول وتركت مخلفاتها في حياتنا.
إنها ثورةٌ للقلب والعقل والروح والضمير، بها تُقتلع جذور الفساد وأشجار الخُبث من دنيانا، وتُستبدل بزرعٍ صالحٍ مبهج يسرُ الناظرين وتضرِبُ جذوره في عمق الأرض لتنمو وتصلح حالنا وأحوالنا وتعمّر خراب ديار الروح الضمائر وتطهرها من دنس أقوامٍ لا خير فيهم ولا خير يصدر عنهم.
إذا نَظَرَ الكونُ شَزراً إِلينا
فأعيُنُنا تُحسِنُ الحَملَقة
وإن يَرغَبِ العَسفُ في ذلِّنا
فويلَ المُذِلِّ وما أحمَقَه
فِلَسطينُ أحيَيتِ أيامَنا
ومَجداً لنا كان ما أَبسَقَه
وسِرتِ إلى مَذبَحِ التَضحِياتِ
لِتَشري الفِداءَ من المُوبِقة
وبالدَّمِ وهوَ نَجِيعُ الحياةِ
سَقَيتِ الثَرى جَرعةً مُدهَقَة
فيا لَدِمائِك مُهراقةً
فِداءً لأمجادنا المُهرَقَة
فِلَسطينُ سَيراً إلى المشنقة
فِلَسطينُ صَعداً على المُحرَقة
ومُوتِي فِلَسطين فالموتُ فَخرٌ
فِداءً لحُرِّيَّةٍ مُطلَقة.(1)
(1) نسيب عريضة.
اضافةتعليق
التعليقات