هذا الوخز في قَلبي بات أكثر عُمقاً وإيلاماً، إنه ُشَرَك ٌمن مسامير صدِئة كُلما شَهقت لِألتقط نفَساً تنغَرِز أكثر في القلب ِفيشتد ُّ الوجَع.
لم أكُن ْواهمة ًعندَما التقطت ُخيالاً مُغادِراً في أواخر ِتلك الليلة ِالظلماء، إذ كانت ِالساحات تَضُج ُّ بأنين ٍ مُوَحَد ٍ تَضرعَت ْ فيه ِ للخلاص، هي ذات الليلة ِالتي عاد َفي أوائِلِها مُهروِلاً والموت ُ مُمسك ٌبأطراف ِقميصه ِيحاوِل ُأن يَستَل روحَه ُمن خاصرته ِ بسكين ٍغادِر، لكنه ُ أفلَت بضربة ِحَظ، إذ طالما كان الموت يخطِئه، وهو يضحك مستهزئا من أولئك الذين َ يتوعدون وغيرَ قادرين، يلفُهُم ُالعجز دائماً،
: - لأن الله َ معنا.
هكذا يختم ُ قولَه ُ، إلا إن هذه المرة كانت مختلفة ، فلم يستطع ْ ابو محمد ٍ بائع ُ القهوة ِ المتجول ُ أن يعينَه ُ على الإفلات ِ بعد َ أن غادر َ الساحة ِ عائداً للبيت ِ، فكانت السكين ُ تنبت ُ في خاصرتِه ِ بعد َ أن أخطأَت ْ موضِع َ قلبِه ِ لكنه ُ لم يسقط ْ، كما النخلة ُ لن تسقط َ إن ْحاولوا قطع َ قلبِها - جُمّاراً - يبيعونه على الأرصفة ِفتبقى واقفة ًبشموخ ٍشاهدة على جريمة القتل، هو لم يسقط ْ أيضاً.
التفّت ْحولَه ُنِسوة ٌعابرات لَفَفْنَه ُبعباءاتِهن ّ كأسرار ِالعفة ِوالطُهر ِحتى وصل كَطرد ٍ مُقدس أفلَت َمن جهنم.
هي صور لذات المعنى والحال، متكررة متعددة من ساحة الحبوبي إلى التربية إلى التحرير، نسغ واحد، وذات اللوعة تحركُ الجميع.
وصوله كان إشعاراً لصفحة جديدة، لقرار تم تأجيله ألف مرة للسبب ذاته.
: - نحن أبناء البلد ونحن المتجذرون في طينه منذ الأزل.
لا خلاف على ذلك، في القلب تلتقي كل الجذور لتستمد الحياة والوجود.
هذه المرة رأيت دمعة ً ويأساً، لم يعطله الجرح عن اتصالات سريعة أجراها عبر الهاتف، لم يلتفت إلى غمامة الخوف والحزن التي احتوتني، حيرة وخليط من مشاعر متناقضة، لقد حزم أمره، ولا مجال للحوار بعد الآن، فقد رأيت في عينيه نظرة والدي ذاتها عندما تم الاستيلاء على بستانه بتزوير أوراق بغطاء قانوني، ورأى كيف يُنحَر النخيل ُويُقتَل، تتساقط النخلات الواحدة تلو الأخرى، يُسمَع صراخُها واستغاثتها لتتحول الأرض إلى مشروع استثماري للحاج أبي توفيق
كان يتألم مع عجزه، فخر ّمتهاوياً ومودِّعاً على أرضه المستباحة، لذا لم أعترض ولم أتدخل.
كنت أراقب كذبيح ٍعاجز أمام هذه الحالة التي تأبى الوصول إلى نهاية ما، أياً كانت فقط ينتهي الأمر ويتوقف الوجع، نهاية حتى لو كانت كحقنة مخدرة، سيان عندنا فقد وصل الحال إلى الاصطدام بجدار العجز واليأس.
سألته وأنا عاجزة عن الجلوس والهدوء
: - والآن؟
رفع رأسه نحوي، بدت عيناه كَبركتين لماء ساخن وَخَزني حريقُهما المشتعل فلذْت ُبالصمت.
بعد أن دقق مجموعة أوراقه وحزمها بمحفظته أجابني
: - سأرتب أمري وأتصل بك، كان لابد أن أهاجر منذ زمن فقد كان التأجيل بلا معنى هكذا ستكون الأمور، وإلا فإن الكواتم تعمل بصمت تحت جنح الليل، وخسارة أن يلتقطنا الجبناء واحداً تلو الآخر.
أخذ نفساً موجوعاً ويده تضغط على الجرح بألم وبدا صوته مختنقاً بعبرة بكاء مكتوم، وأردف قائلاً،
: - الأمور متأزمة ولن يستسلموا بعد أن ذاقوا طعم المال والسلطة سيحرقون البلد بأبنائه، فقد أختل ميزان القوى، الخوف والمال أخرس الجبناء، عرفوا جيداً من أين تؤكل الكتف، فأكلوا الأخضر واليابس بعد أن ساد الجهل والفقر، حبيبتي - لا تخافي ستكون الأمور بخير، إذ لابد من إعادة ترتيب الأوراق.
كنت أسمعه ولا أسمع، أنظر إليه ولا أراه، كأني أدور وسط ضباب بارد مع خدر وذهول، والعجز أصاب تفكيري وإحساسي، طلبت منه التريث متوسلة أن ينتظر حتى الصباح لمناقشة الحال مع باقي العائلة لإيجاد حل مناسب، باغتني وارتحل خلسة خوفاً من عجزه أمام ضعفي ووحدتي، بعد أن هومت عيناي بإغفاءة قصيرة رغماً عني كان قد غادر المنزل دون وداع.
كتمت السر كجمرة وسط رماد القلب بانتظار اتصال يعيد جذوة الحياة إلى هذا اليباس وعطش الروح.
أجوب شوارع مدينة تحتضر، وملامح المارة المريب تزيد من توجسي من أحداث قادمة،
استوقفني منظر طفل على تقاطع رئيسي، قد وضع مجموعة قناني من البنزين ليبيعها لأصحاب الدراجات النارية والتكاتك، قد ربط سلكاً كهربائياً مهملاً بين عمودين يشكلان قاعدة كبيرة للوحة اعلانات احتوت مجموعة من صور الشهداء، صنع منها أرجوحة يلهو بها غير عابئ بالسيارات وضجيجها، وكأنه يعيش حالة حلم لدفء عائلة وبيت آمن.
تأملت بعمق كامرأة تتوق إلى ملء حضنها بطفل تناغيه وتلاعبه كما الأمهات في حكايا (الدللو يلولد يبني).
أكملت طريقي مع صور اجتاحت مخيلتي، كان هناك على الرصيف الآخر بناية من القرميد الأحمر وباب خشبي موارب يعلوه قوس كبير ويرتفع فوقه صليب حزين، تسمرت عيناي على الباب وكأنه يناديني من بعيد، يهمس لي، مع نغم لتراتيل قديمة، كنت أسمع خلالها صهيل خيل بعيد وصليل سيوف،
: - أكاد أجزم أني رأيت وميضها يتخلل الغبار، ولا زال الهمس يغريني، انجذبت نحو الباب، اجتزت ممراً قصيراً يفضي إلى قاعة كبيرة كانت جميع الكراسي فارغة. وهناك في المقدمة رجل بملابس سوداء يحاول ايقاد شمعة تحت قدمي تمثال العذراء مريم، وهناك على المذبح نذور وأماني وورد أحمر. هيبة المكان وقدسيته استحوذت على كياني، لا زال الهمس يتصاعد في أذني والتراتيل تتعالى إنها روح عيسى ومريم الصليب يقطر دماً، أوقدت شمعة أخذت مكانها على المذبح مع نذور الأمهات، والأخوات، والعاشقات.
تكاثرت الشموع، وتعالت التراتيل تحمل دعوات قلوب حرى على المذبح الكبير.
اضافةتعليق
التعليقات