كان الكون بكل مجراته يستعد إستعدادته لشهري الحزن، الانسان، الحيوان، النبات والجماد، كل حجر وطير، الشريعة السماوية بكل سكانها
وهُنا بين أرجاء روحي كانت تُقام إستعدادات لا مجال لشرح تفاصيلها، أو بالأحرى لا يجب ان تُكتب تفاصيلها.
كنتُ قد حزمتُ جميع ألبستي المُلونة واكتست خُزانتي بسواد رهيب كـ ليل طويل سيمر عليَّ..
أصبح الصباح يشبه الليل كثيراً، مُلبس بالغيوم، جاءتني رفيقتي، رغم الأختلافات الشاسعة بيننا الا انها رفيقة قلبي ومسيرتي..
_هلمي يُقال ان اليوم سيُنشر قميص الحُسين عليه السلام؟
* بلى صحيح ولماذا يُقال؟
* لا شيء، أم إنكِ تريدين خوض نقاشتنا اللامُتناهية مُنذ الصباح؟
* لا.. لا أُريد ولكن أيضاً يجب ان تنتبهي لمزحك وسُخريتك كثيراً في هذه الشهرين!
في طريقنا الى الدوام، كل شيء كان يتنفسُ حُزناً، في كل موضع كان هناك أثراً لحزن الحُسين وكربه..
إنتهت الساعات الاولى من الدوام، كآبتي بدأت تغرزُ سهامها في قلبي، يالله.. لا اقوى على مزاولة روتين الحياة في هذة الايام العشر، الكل هنا يقيس عاشوراء بعقله الصغير ويخضعها لقوانينه الدنيوية المُجحفة، والاغلب يتحدث بإسمه وعن ماذا يريد وماذا لا يريد!
وأنا؟
أنا ما زلتُ أرمق الجميع بنظرة أسف.. لماذا صرنا بهكذا حال؟!
جاءت الرفيقة من بعيد، أعلم ان بجعبتها الكثير من الكلام ولكنها تخاف تداوله معي!
* سيكون علينا دوام يوم عاشوراء لزاماً واعتبريها خدمة للامام!
* أحقاً ما تقولين؟
* ولكن يبدو أنك قد فقدتِ عقلكِ تماماً عن أي دوام تتحدثين؟
* إفعلي إنتِ، أما أنا فلا!
أطرقت برأسها مع صمت امتد لدقائق ثم قالت:
إعتدنا أن نتناقش بكل شيء ونتخالف وهذا أجمل ما يُميز نقاشاتنا، دعينا نتناقش بهدوء دون حُكم مُسبق منكِ؟! موافقة؟
* لا أدري أعتقد انني سأفقد صبري في مُنتصف الطريق! لكن لا ضير من المحاولة!
* سأسال لكن لا تُسيئي فهمي، ممكن؟ فهدفي من السؤال التوصل لنقطة نهتدي اليها أنا وإياكِ! الا تعتقدين بأننا نُحجم الحُزن على الحُسين سلام الله عليه بالبكاء فقط وبعض المظاهر الاخرى! الحُسين أكبر من هذه المظاهر فلماذا نحجمه بها؟
* ومن قال لكِ بأننا نُحجمه بهذه المظاهر؟ وهل مُثل الحُسين يُحجَم؟
* بلى نُحجمه! أما أن أبكي وألطم وأُطبر عليه أو سأكون لا أعرفه؟
يبدو إنكِ مُخطئة ياعزيزتي، انتِ شاردة بتفكيركِ الى سكة بعيدة جداً..
الحال ليس كما تعتقدين !
بل بتحجيم قضية عاشوراء، فقضية كربلاء هي إستثناء الله جل وعلا فهي لم تخضع للقوانين البشرية والمادية ولا حتى الوجودية، إستثناء الله جل جلاله لتليق بإستثناء ما صنعهُ سيد الشهداء هناك على رمضاء كربلاء حيثُ توزعت أشلاءه الطاهرة على طول الطف رضاً برضا المعبود..
وحتى لا نختلف انا وإياكِ ونقول هذا مقبول وهذا مرفوض هلمي لنقرأ عاشوراء بالرؤى التي أرادوها هم سلام الله عليهم، نحن أخطأنا بقراءة عاشوراء ولهذا حدث هذا الشرخ في علاقة البعض مع كربلاء!
ما رأيكِ بفعل المعصوم!
هل يمكن لنا أن نناقش رأيه؟
هل يمكن أن نرفض قولاً أو فعلاً له فقط لأنه لا يُناسب أهواءنا أو لم يدركه عقلنا الصغير!
بلا شك لا، فليس لنا الا التسليم المُطلق والا فإننا سنخسر في محطة ما ونتخلف عن ركب تلك السفينة الواسعة!
هل سبق وأن قرأتِ زيارة الناحية المُقدسة؟
تلك الناعية التي تنعى ذبيح الطف وما جرى عليه على لسان ولده الغائب المأمول لأخذ الثأر وقيام الحق!
إن كان جوابكِ بلى فتعالي معي نخلع تلك الحُجب التي تحول بيننا وبين إستشعار كربه ونحلُ طلاسم قضيته الكُبرى!
يقول المولى صاحب العصر والزمان عجَّل الله تعالى فرجه الشريف: (فَلَئِنْ أخَّرَتْني الدُّهُورُ، وَعَاقَنِي عَنْ نَصْرِكَ المَقْدُورُ، وَلَمْ أكُنْ لِمَنْ حَارَبَكَ مُحَارِباً، وَلِمَنْ نَصَبَ لَكَ العَدَاوَةَ مُناصِباً، فَلأنْدُبَنَّكَ صَبَاحاً وَمَسَاءً، وَلأبْكِيَنَّ لَكَ بَدَل الدُّمُوعِ دَماً، حَسْرَةً عَلَيكَ، وتَأسُّفاً عَلى مَا دَهَاكَ وَتَلَهُّفاً، حَتَّى أمُوتُ بِلَوعَةِ المُصَابِ، وَغُصَّةِ الاِكْتِئَاب).
رويداً رويداً فالحزنُ في كربلاء صعبُ مستصعبُ لا يدركه الا نبيُ مفجوع بالحُسين أو ملكُ خادمُ له أو مؤمن إمتحن الله قلبه بالحُسين سلام الله عليه ..
إمامكِ المعصوم وحُجة الله على خلقه يقول فلأندُبنَّك صباحاً ومساءاً، هذا القسم الذي يؤديه حُجة الله لجده لواضح وضوح الشمس، فهو الذي يقسمُ بأنه سيندبُ تلك النُدبة المليئة بالآهات والدموع، بالكمد والجوى ليس في وقت واحد فقط بل في كل صباح ومساء!.
وماذا سيصنعُ أيضاً؟
هو لن يبكي فقط، لن تنزلُ بعض قطرات حارة تُعانق خده الشريف ثم ترحلُ ما إن ينتهي الناعي عن نعيه!
لا والف لا بل سيبكي حتى يحترقُ ذلك الجفن جزعاً وألماً فيفيضُ دماً دون الدمع؟
أسالكِ بالله هل سمعتِ يوماً بأن إنسان بكى من دم؟ هل رأيتِ يوماً بأن عينا إنسان فاضت دماً من فرط حُزنه؟
ابداً لم نرَ ذلك، لم نصل لتلك المرحلة التي تبيضُ عيوننا من البكاء ويشتعلُ الرأس شيباً!
وماذا يصنعُ ايضاً؟
سيبكي ويبكي ويُعانق الحسرة على سجادة الاكتئاب ليُؤدي صلاة الحُزن من جلوس كما فعلت عمته المُكرمة في تلك الليلة الرهيبة!
ثم يرتحلُ الى ربه وقلبه قد تلوى من فرط المُصاب وما دهى جده، سيموت والغُصة تغفو بين طيات صدره؟!
هذا الحُزن الاستثنائي الذي يُكافىء حجم المُصيبة هل وصلنا الى معشار الذرة منه؟
هل أدينا حقه؟
هو يقسم ويقول من الصباح والمساء وحتى أموت سيبقى ذلك الذي ينبضُ بين الضلوع يكتوي بنار رزاياك..
هو يتأسى بأبيه السلطان الرضا سلام الله عليه حين كان يُغشى عليه من فرط الحزن على ما جرى في كربلاء..
ثم يقول: إنَّ يوم الحُسين أقرح جفوننا وأسبل دموعنا وأذل عزيزنا!
لماذا تغلغلت تلك الذنوب في قلوبنا حتى صرنا نُخطىء في قراءة عاشوراء؟
لماذا صار هوانا هو الهوى الغالبُ على هوى الحُجة المُفترض الطاعة!
لو إننا أزلنا ستار الجهل عن بصيرتنا والتحقنا بركب صُلب البصيرة لما إستحال البعضُ منا جهلاً يدعيَّ كذباً على إمامه!
إن كان الكذبُ على الله ورسوله يُبطل الصيام في شهر رمضان فماذا يفعل الكذبُ عليهم في هذا الشهر؟
هو يُبطل الروح، ويرميها في بئر الظُلمات التي لا خروج منها، الحُسين يريدُ هذا ولا يُريد هذا؟ ولا تفعل هذا؟
ألم يدرك البعضُ منا إنَّ من أفتى بالحُسين ومصابه وشعائره دون علم أكبه الله على منخريه في نار جهنم؟!
فلماذا هذا التهاون والخُذلان له؟
لو شئتُ لأخبرتكِ عن حزن الله في عرشه وملائكته ولطم الحور العين، وإفتجاع النبي الأكرم وأمه وابيه وأخيه ولأخبرتكِ إن الذي وصل الينا من عاشوراء لم يصل بالاقاويل والتمني بل وصلت الينا بشق الانفس والتعذيب والرماح التي فاقت طعناتها الالف وتسعمائة طعنة، وصلت الينا بالخدور التي سُلبت والحُرمات التي إنتُهكت فلا يمكن لنا ان نُضيعها تحت سجن محدودية عقولنا وأهواءنا!.
اضافةتعليق
التعليقات