شهيق وزفير عربات عسكرية وانفاس ليل طويل.. وعواء هستيري للضباع.. ضباع بأصوات بشرية تحيط امرلي.. تعود لقافلة الأنياب المُدماة..
الشاب الجنوبي بسمرته الداكنة وشامته التي تهيمن على خده الايمن يقبض على يديه وسلاحه متكئ على طرف كتفه.. السيجارة في يده تحرق داخلها وتسحق احشائها.. وصورة زوجته التي اقترن بها قبل يومين لاتزال غير واضحة.. لم يحفظ شكلها بعد.. يفكر بها وتارة يدفع نفسه الى حافة النسيان..
ينظر الى وجوه زملائه.. ويخرج ورقة صغيرة من جيبه ويكتب عليها: الرجل الستيني غارق في تهيئة سلاحه..
والاخر يحاول ان يرقع ملابسه التي مزقتها المعارك.. وفي طرف العربة.. طالب هجر جامعته مؤقتا يريد ان ينال الدكتوراه في الشهادة..
وقائد العربة الذي ترك سيارته الصفراء قرب رصيف بيته الايجار يطمئن زوجته بأنه بخير وساقه تنزف حكاية.. يرجع الورقة الى جيبه ويقلب لحظات تحمل اشياء من الصمت الداخلي تسود الطريق الى بشر لا يعرفهم.. ولم يراهم من قبل..
محاصرون.. نفذ كل شيء لديهم الا الصبر.. عتاد مؤثر اكثر من عتاد البندقية التي يحتضنها..
الساعة الان الثانية عشر.. اليوم يطوي نفسه والنجوم تفترش السماء..
والطريق البعيد شارف على الانقضاء.. المدينة المحاصرة تلفظ انفاسها.. والانياب المُدماة تريد ان تشبع معدتها النتنة من لحوم الاطفال والنساء..
الضباع تعوي.. تعفنت في الفراغ وهربت من رائحتها.. مخالبها تغتصب الصخور العذراء..
لديها شهوة جارفة للانقضاض.. تتوقف عن الحراك.. شرعت بفتح الافواه واتسعت حدقة عيونها وتلتقط النظر بصعوبة واحست بغضب قادم.. اعصار لايعرف الهوادة ويمزق عباءة الليل..
العربات تتوقف..
يخرج الورقة من جديد ويكتب: الان سنقاتل..
صوت يأتي من المقدمة: سنكمل الطريق مشياً على الاقدام..
انه امر والجنوبي يقفز مع سلاحه.. يهيئ صمام امان بندقيته ويدعوها للصراخ..
انقطعت حبال الانتظار.. الكل يريد ان ينفجر.. بركان النفوس تحاملت كثيراً وكل شيء بات سرابا والذهنية تحفظ فكرة واحدة.. ينظر الى ساعته التي اهداه اياه اباه عندما تجاوز المرحلة الاعدادية ويرسل اليها نظرات تجمد فيها الدم..
نظرات تريد ان تتحدث وتبوح.. ترفض البقاء.. فالانتظار عبئ ثقيل واسوء شيء يحفظه في ذاكرته فهو لايطيق الانتظار حتى عند باب طبيب الاسنان لاسباب لايعلق عليها..
يريد ان يهرب اليهم ويسجل سبق صحفي باول رصاصة.. لايستطيع.. هناك اوامر يجب ان يلتزم بها..
يختار الصمت المرغم عليه.. الان تأتي اشارة قطع الطريق الى الضفة الاخرى.. ضفة المواجهة التي ينتظرها..
تتحرك افواج الصفوة.. ودرجة التأهب على اشدها.. مواقع الضباع تطل برؤوسها الأخطبوطية..
وشعور قريب بأن السنة النار ستنطلق من فوهات القلوب الملتهبة..
والقمر يرفع من درجة نوره.. صرخات الضباع تعلو.. ترفض اقتراب الصفوة.. وفوهات البنادق تفرغ صبرها صوب لمعان عيونها..
الضباع تتكشف ويظهر لون جلدها الشاحب المرقط.. ترد بقوة.. وتدفع عن نفسها الخوف بالخوف..
ايام وليالي من المجابهة جعلت الضباع تنهار وتتشتت كبقايا قهوة في قعر فنجان ورائحة جلودها المحترقة تزكم الأنوف واشلائها تلف الرايات السود..
وقبل مرور الذكرى الرابعة والسبعين على عملية بارباروسا التي عرفت تاريخيا بحصار لينينغراد.. امرلي تتنفس الخلاص المؤجل وعلى بابها ولد النهار.
الجنوبي يضع سلاحه جانبا ويأخذ نفسا طويلا ويكتب على ورقته: نجحنا في فك الحصار..
الطريق سالك والصفوة تكاد تفك العقدة تلو الأخرى واواخر قطيع الضباع يتعثر وهي تلعق جراحاتها..
فجوة كبيرة يرون من خلالها المدينة التي لم تعرف النوم واهلها الصامدين يشعرون بنسمة هواء باردة ليس كعادتها وترى وجوها ورايات وكأنه الفتح الذي تأخر كثيراً ولكن ان تأتي متاخراً افضل من ان لاتأتي ابداً..
اصوات الرصاص تملأ مسرح المواجهة.. فقد رفع الستار والرجال ينهون الفصول ويضربون الجدار العازل..
الجنوبي ينفرد لوحده.. كأنه يتيه في المجهول لايعرف الى اين يذهب فعويل النساء اربكه.. صراخ وكلام طويل.. ورجل عجوز يتحدث واطفال كأنهم يمسكون بأطراف ثياب الرجاء.
يطرق باب حديدي تزاحمت عليه الشظايا.. يعتقد انه طرق باب بيت يخلو من ساكنيه.. يرجع الى الخلف ليتأكد.. انه البيت الذي تنوح بداخله الارواح.. يخشون فتح الباب او حتى السؤال.. يعتقدون انه ضبع يبحث عن ضالته!!
يطرق الباب من جديد.. يطمئنهم بأنه جاء مع الصفوة الفاتحين..
القابعون في البيت القديم لايصدقون.. والجنوبي يفشل في الحديث عن نفسه ولكن احدهن تقول ان لهجته عراقية خالصة والعجوز يقول لاتصدقوه.. الجنوبي يعيد عليهم الكلام ويخبرهم بصدق نواياه وانه جاء للمساعدة..
الانقسام يبدأ بين اطراف العائلة والرأي الأخير ان يفتحوا الباب.. فيرون مقاتلا خجولا يتكئ على الجدار المائل والدموع تفر من عينيه وقد انزل فوهة بندقيته للارض.. ليس استسلام ولكنه يريد ان يصل اليهم..
العجوز يعانقه ويقبل جبينه ويقصد قطعة القماش الخضراء المكتوب عليها: ياحسين فهي كلمة السر.. يعتذر ويريد ان يقول شيئاً اخر ولكن صراخ المرأة يرتفع من جديد.. انه صوت ابنته الحامل ومخاض الولادة يفتت اعصابها.. زوجها استشهد قبل ان يرى طيف مولود انتظره طويلاً..
يهرول باتجاه زملائه ويخبرهم بالامر.. شعروا انها معركة اخرى.. معركة انسانية.. سيقودها نفس الابطال.. جاؤوا يركضون والرجل الستيني اصبح في مقدمة المجموعة..
استشعر بانها ابنته.. وقفوا عند الباب وامرأة نحيلة تخرج اليهم.. نظرت طويلا في الوجوه.. دخلت في غيبوبة التوهان.. ضاعت الكلمات واستوت على جودي الحيرة..
هل تبحث عن احد تعرفه ام نسيت ماذا تريد.. صوبت نظرها تجاه الشارع الذي ضاعت ملامحه..
البيوت المدمرة والمتشابهة بملامحها جعلتها تفكر كثيراً..
ولاتعرف الى ماذا تشير.. نظرت يميناً وشمالاً.. اعادت النظر ملياً وقالت: هناك قابلة مأذونة في نهاية الشارع..
لون باب بيتها اخضر وشرفة البيت فيها شباكان عريضان..
الجنوبي يهرع الى دراجة هوائية غافية دون مشاعر.. والمرأة النحيلة تصرخ خلفه: اسمها القابلة ام محمد.
ازيز رصاصة القناصة لم يهدأ.. بقايا الشر تخرج مافي معدتها من بشاعة..
الرصاصات تتلاحق وهو يثني نفسه مرة وينحني على مقدمة الدراجة مرات..
الامتار القليلة تزداد ابتعاداً ويتمنى ان تطوى له الارض لا ان تتمدد.. صراخ المرأة الحامل يدوي في اذنه..
يصل الى مراده والباب الاخضر موشحاً بالسواد.. النار قد اكلته ولم تشبع فصعدت الى هامته المتدلية..
الشباكان هما الدليل المتبقي.. يصرخ بعلو صوته:
انا من الحشد الشعبي.. وهناك امرأة حامل وحالتها خطيرة وربما تموت..
الجواب تأخر.. فالموت امر عتيق لم يفاجئ السامعين..
أذناه تلتقط صوت بندقية تتهيأ للرمي من داخل البيت..
الجنوبي يتصبب عرقا ويقول:
انا لست من داعش.. انظروا الي من الشباك لتتأكدوا..
يبتعد قليلاً.. عين ترقب الشباكين واخرى تراقب رصاصات تبحث عنه..
وجه مختبئ متعرق صُلِبَ عليه الف امل وامل يخطف لحظة منفلتة ليتأكد من هوية الغريب القادم..
ينزل بسرعة بقلب مطمئن وبندقيته في يديه ويفتح الباب ببطئ شديد والجنوبي يخبره بأمر المرأة الحامل والرجل المحاصر يجيب بأن زوجته القابلة الماذونة تُرضعُ خمسة من اطفال الجيران الذين فقدوا امهاتهم واخرين لايجدوا عبوات حليب تسد اعاصير جوعهم..
الجنوبي يزداد توتراً وزوج القابلة الماذونة يدخل للبيت ليخبر زوجته..
القابلة المأذونة التي تعهدت بارضاع اطفال المدينة الجوعى وترعاهم ترتدي عبائتها وتخرج مع زوجها والجنوبي يترك الدراجة التي استعارها من المجهول ليسير امامهم والثلاثة محنيو الاجساد.. ثمة انفجارات قريبة.. تقترب قليلاً وتنثر شرها..
رائحة الدخان والبارود تفتق الرئتين وتخنق مابقي من اوكسجين.. الإياب بات اصعب.. دقائق وتغير الحال فالضباع الجريحة تنسحب واخرى تحل مكانها ونوبات خبثها تضرب المدينة.. الجنوبي ومن معه يريدون الوصول.. من الممكن ان يصل ولكن القابلة المأذونة قد اعياها هواء الجثث لتلقي بنفسها على كتف زوجها..
الزوج يطلب منها القليل من التحمل والجنوبي يلتفت من كل جهة.. القابلة المأذونة المتعبة تكمل المسير والجنوبي يسأل نفسه كيف ستقوم بمساعدة الطفل على الخروج الى حياة مدينته المرهقة..
خطوات الارجل تتثاقل وصراخ المخاض يغلب صوت الرصاص والستيني يشير بيديه من بعيد بأن الطفل قد جاء..
الكل يسمع صراخ الحياة من فاه الطفل الوليد.. نقياً بقماط ثلجي في مدينة علمت الدنيا كيف تنتصر القلة بعقيدة راسخة كجبل ركين.. الجنوبي يسأل للستيني:
ماذا اسموا الوليد؟
الستيني يجيب بعد ان افرغ دخان سيجارته بصعوبة:
الان سنعرف.. ولكن لماذا تأخرت والبيت ليس ببعيد؟
الجنوبي ينظر للشارع الذي سار فيه وقال:
انه اطول شارع اراه في حياتي.. هناك اضطربت الجاذبية وفيه اصوات المعذبين وان لم اسمعهم.
الجد المثخن بالجراحات اللامرئية يهتف قائلا:
انها بنت واسميناها صابرين..
الجنوبي يخلع قطعة القماش الخضراء التي تعصب بها وتزينت باسم الفاتح الاكبر ابو عبد الله الحسين ويقول للجد بنبرة درامية:
البسوها لصابرين..
ويخرج ورقته وقلمه ليكتب عبارة جديدة ولكن القلم انتحر من شاهق..
الستيني فهم ماذا يريد ان يكتب الجنوبي.. فقال له:
تعال معي الى ذلك الجدار..
وقفا على خط واحد امام بيت تقطعت أوصاله.. الستيني يجد مساحة للكتابة فينزل الى الارض ويلتقط قطعتي طابوق تمزق من جسده الموحد فامسك بواحدة واعطى الاخرى للجنوبي..
كتب الجنوبي: ولادة جديدة..
وكتب الستيني: الحشد مر من هنا..
اضافةتعليق
التعليقات