في جلسة نسائية حميمة بينما كان الحوار يدور حول الزواج والمهر، أخبرتنا احداهنَّ عن قيمة مهرها الغالي الذي سيكون بعملة الدولار!، وتلك التي تريده سبائكا من ذهب، لفتت انتباهي احدى الفتيات التي وجدتُ في ملامحها سيل من الطمأنينة والسكون، لم أفكر كثيراً وبادلتها بالسؤال: وانتِ؟ كم تريدين مهرك؟، قالت بصوت مليء بالسكينة: مهري سيكون غالي جداً، ولا اظن بأن هناك من سيتحمل ذلك. قلت لها بعجب: لماذا؟، ما هي العملة التي تريدين بها مهرك؟، الجميع زرع أنظاره عليها منتظرين الإجابة، حتى رفعت رأسها بخجل وقالت: "اريده بعملة الشهادة"!.
حلَّ السكون في ارجاء المكان، وكأن جملتها الأخيرة اصمتَ الهواء من حولها، يا لسعادتها ويا لعظمة ما تريده من مهر!، لا تريد ان يموت حبيبها ميتة عادية، تريده ان يحتضر على أحضان سيد الشهداء (عليه السلام) وينال وسام الشهادة في سبيل العشق الالهي، وفي المقابل تحظى هي بشرف حمل لقب "زوجة شهيد".
ثم التفتُ نحوي وقالت: وماذا عنك؟، ابتسم لها محياي وانزلقت من طرف عيني دمعة صماء!، ابتلعت ريقي ورفعت رأسي نحوها وقلت: امنيتي ان اجمع العقيق النابت في خواتم الشهداء واصنع منه ضريحاً واجب الطواف!.
انزرعت ابتسامة صغيرة على شفتيها وقالت: "امنية جميلة.. وماذا بعد؟، هذين العينين البنيتين تحملان سراً خطيراً..".
استرجعت نفسي.. ولملمت مشاعري بسرعة وقلت: صحيح انه سرٌ خطير!، والاسرار يا حلوتي لا يجوز البوح بها".
لو حاولنا ان نستجمع افكارنا قليلاً، لاشتعلت في عقولنا مجموعة من الأسئلة... كم نريد ان نعيش مثلاً؟، وأين نحن من ذاك الذي ترك كل شيء والتحق بالعلا؟، وفي سبيل ماذا نريد أن نقضي حياتنا البائسة؟، ولكني متأكدة بأن هذه المشاعر وقتية، وستبرد ما ان تنتهي من قراءة النص او ما ان تلتهي بأمور الحياة الأخرى!.
اذن ما هو السر الذي يجعل المجاهدين يقاتلون بكل ما اوتوا من عشق ولا يخفت وهج الشهادة عندهم لحظة واحدة!.
نبشت في خلفية الشهادة، بين ذلك الذي لم يتجاوز العشرين من عمره، وذلك الطبيب الذي ترك الدنيا والتحق بساحات الوغى ليرتقي بذلك العلو الالهي وينال العزة والخلود.. فكلمني احدهم من خلف صفحات التاريخ، وقال: "اردت الشهادة حتى أجعل قلبي في خلوة الوحدة مسجداً لذاته الأقدس".
وقال الأخر: "كم كنت سأعيش؟، ستون سنة إضافية؟، لا اعلم، ولكن ما اعلمه جيداً بأني كنت اعشق الطيران في اوج الملكوت، وفجأة نبت لي جناحين وتوكلت الى جنتي..".
تعمقت في تلك الوجوه التي ودعت الحياة بملامح مستبشرة، بعقيدة رجل مسلم غيور على مقدساته ووطنه، وكلي ثقة بأن معيار الرجولة تخط ارقامها في ساحات المعركة من جديد بين من يرى الموت سعادة له، وبين ذلك الذي أقسم بأنه لن يدخل الحرم امّا محرراً او حاملاً بالتابوت ووسم الشهادة في ركن من اركان جسده...
لا زلتُ ابحث بين ثنايا الشهداء علني أجد ضالتي بين كلماتٍ تركوها لنا، وبين فخرٍ التمسناه بعزهم..
ففي كل شخصٍ منا يكمن سر عميق، سرً يحاول ان يخبئه بين صفحات كتاب او بين تلابيب قصيدة، او حتى على شرفة أُمنية.. سرٌ غامض، لا تستطيع الكلمات ترجمتها!، سرٌ من المشاعر والأحاسيس لا يستطيع فهمها الاً الذي خلق هذا الإحساس.. فترانا نذرف سرّنا بدمعة حارة بين حضرة المعبود او بين حسرة تطلقها النفس في حرم المولى حيث المكان الذي تشعر الروح بأنها طليقة، وتطوف بهذا السر بين منارات الذات المقدسة، علّها تجد السكينة وتلتمس الأمان من حضرته.. فكم منا ذرف سره وزاح عنه ثقل الروح الطاهرة.. وكم من شخص مثلي لا زال يغامر بحياته علّه يجد طريقة يدفن سره بين اضلع الوجود ويشهد البزوغ بكل ما اوتي من أمل!.
اضافةتعليق
التعليقات