قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }(الحج:77).
إن كلمة {لَعَلَّكُمْ} تنبئ عن علل وأسباب بلوغ شيء ما، فورودها هنا وكأنها حلقة وصل بين معرفة ما بعدها من نتائج وما قبلها من مقدمات، إذ النتيجة في هذه الآية هي {تُفْلِحُونَ}، أما المقدمات فهي أمور أربعة: {ارْكَعُوا}، {اسْجُدُوا}، {اعْبُدُوا رَبَّكُمْ}، {افْعَلُوا الْخَيْرَ}، فهذه خطوط عامة ظاهر الآية يعطينا إياها، أما ما يمكن أن نصل إليه من خطوات عملية فمن خلال التأمل في هذه الآية، ومنها:
الفلاح خاص بأهل الإيمان
إن الآية لم تقل {يا أيها الناس}، أو {يا أيها الإنسان} إنما خاطبت أهل الإيمان- وهي واحدة من سلسلة آيات تؤكد هذه الحقيقة- فهذا يعني أن كل إنسان يتمكن أن ينجح ولو كان كافرا لكنه لن يبلغ الفلاح، فبلوغ الفلاح مختص بالمؤمنين، فهو أعم من النجاح وأشمل، لأنه يشمل الأثر الدنيوي، والجزاء الأخروي الطيب لاعتقاد وعمل هذا المؤمن، بالنتيجة الفلاح ثمرة الإيمان، والإيمان مُقَوم لبلوغ الفلاح.
التعبد لله تعالى نبع الفلاح
إن الآية أشارت إلى (الركوع ثم السجود) تباعًا وهذه أمور عادة لا تؤتى تباعًا إلا في الصلاة، ولعل في ذلك تأكيد على أن أهل العبادة كالمُصلين هم من أهل الفلاح لتحقيق هاتين العلتين بهما، هذا من جانب.
ومن جانب آخر إن (الركوع) و(السجود) فيهما إشارة إلى تعظيم الخالق وعلو شأنه في قلب هذا المؤمن، فهو بهما يعترف أن العظمة والعلو لله تعالى؛ فيستعين به أن يَعظم قدره ويُعليّ شأنه في الدارين، فمفتاح بلوغ الفلاح هو الاعتراف بالفقر والحاجة له سبحانه أولاً وآخرًا.
وغير المؤمن هو لم يُشمل لأنه عادة يكون من أهل التعاظم والتعالي في نظرته لذاته، فيرى أنه كذات لا يليق بها الركوع والسجود، فيخرج بذلك عن حدود العبودية، وهذه الآية: {وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى}(طه: 64)، خير شاهد على منطق ونظر غير أهل الإيمان لأسباب الفلاح.
العبودية المطلقة توصل للفلاح
ثم ذكرت الآية (اعبدوا ربكم) هنا - كما يبدو- العبودية المقصودة هنا هي الأعم، أي غير العبادات الشخصية كالصلاة، فالمؤمن من سماته التواضع والخضوع والامتثال لربه في كل لحظات حياته وليس فقط في لحظات الوقوف بين يدي ربه في أوقات العبادات والفرائض الخاصة.
لهذا نرى البعض في الصلاة يتأدب بآداب الحضور بين يدي الله تعالى كبعض النساء يلبسن الحجاب ليصلين، لكن ما أن تنتهي حتى تخرج بين الناس بلا حجاب وبزينة أيضًا!! فهذه عبوديتها مؤقتة ولحظية وليست شاملة.
كما إنها قالت (ربكم) وليس (الهكم)، فنحن في الصلاة نخاطبه (عز وجل) (بالله أكبر)، فالخضوع في الصلاة للخالق الاله أي تلك الجنبة الالوهية الحاكمية الجلالية، بينما هنا العبودية للرب أي المدبر، المربي، الراعي المدير لشؤوننا وحياتنا، الخضوع له في تعاملاتنا الحياتية، في أخلاقياتنا مع الخلق؛ فالتواضع لهم وخدمتهم لأنهم عيال الله تعالى خطوة لبلوغ الفلاح.
فعل الخير يُجسد فلاح المؤمن في الدنيا
وبعد هذه الخطوات التي ترتبط بعلاقة الإنسان المؤمن مع ربه ذكرت العلة الأخيرة وهي (فعل الخير) ولعلها ثمرة تلك العلل الموجبة لبلوغ الفلاح.
وفي ذلك إشارة إلى إن المؤمن كلما كان من أهل التعبد والعبودية السليمة العميقة مع ربه في كل لحظات عمره، كلما سَهُل عليه اختيار أفعاله، فسيشمل بتوفيق الله تعالى وتسديده ليكون من أهل المسابقة والمسارعة بفعل الخيرات التي تثقل موازينه وتجعله من المفلحين في الدارين.
اضافةتعليق
التعليقات