في استفزاز جديد متعمد لمشاعر المسلمين في العالم، أعلن النائب الهولندي غيرت فيلدرز أنه يعتزم تنظيم مسابقة رسوم تصور النبي محمد، وهو مشروع اضطر إلى إلغائه قبل عام إثر تظاهرات وتهديدات بالقتل.
ودعا فيلدرز المعروف بمواقفه المعادية للإسلام، متابعيه على تويتر إلى "إرسال رسوم كاريكاتورية'' للنبي محمد صلى الله عليه واله وسلم، ويرغب النائب الهولندي تنظيم المسابقة في مقر البرلمان الهولندي في لاهاي، متذرعا بحق التعبير.
أصبح من الواضح أن الإساءات ''الجماعية المنظمة أو الفردية'' للدين الإسلامي، بدءاً من إنتاج صورة الإسلام إعلامياً إما كدين جهل وقتل وتكفير، أو كدين معتدل إلى حد ''الميوعة'' العقائدية، وصولاً إلى الإساءة إلى شخص الرسول الكريم (ص)، ترتبط بشكل مباشر مع معزوفة حرية التعبير! منتهى الإسفاف، في التبرير، عندما يتعلق الأمر بالمقدسات الإسلامية، في مواجهة حماية الحريات الشخصية، عندما يتعلق الأمر بالغرب. والواقع أن الفارق، يكمن في الموقف العربي والإسلامي، في علاقته بالغرب، والذي يتسم بأنه موقف ضعيف، يقوم غالباً على رد الفعل الوقتي، والذي يغلب عليه الطابع الانفعالي، وهو أمر يعرفه الغرب تماماً، ويدركه. وينطبق ذلك على كل القضايا السياسية والاقتصادية والدينية والثقافية والفكرية، باختصار ينطبق على مجمل علاقتنا مع الغرب.
حرية التعبير في الغرب في مجملها انتقائية بمعنى أن أي حديث عن المحرقة اليهودية هو أمر مرفوض ويعد من الخطوط الحمراء، ومازلنا نتذكر مدى الهجوم الشديد الذي تعرض له المفكر الفرنسي روجيه غارودي الذي تحدث عن المحرقة بأسلوب علمي تاريخي، كما أن مسألة معاداة السامية تعد من الثوابت التي لا تجرؤ صحافة الغرب حتى على الإشارة لها. ومع ذلك فإن السخرية من الأديان والرسل عليهم السلام مراراً وتكراراً اعتبرت في الغرب حرية تعبير. والسؤال ما هو الهدف من هذا التناقض أهو مقصود أم غير ذلك؟
الإمبرياليون الذين يتعللون بـ''حرية التعبير'' لتمكين المسيئين للإسلام من الإفلات من أي مساءلة، منافقون بمقياس الاستنفار الذي يسارعون إليه حين يتعلق الأمر بمجرد إثارة الشك، بأرقام أسطورة الهولوكوست. والإسلامويون الذين يغفرون للإمبرياليين إساءاتهم حتى للإسلام، إنما يتعكزون على الإسلام الجريح نفسه للبقاء في الحكم، أو لبلوغه. ومن التدقيق في شراكة النفاق هذه بين التابع الإسلاموي والمتبوع الإمبريالي، نتبين الغاية الجلل التي يطمع الإمبرياليون في تحقيقها من إرساء محددات اشتباك مستجدة في الوطن العربي على هذا النحو، الذي تتبدل معه التناقضات بالتزييف.
إن اعتبار الانتهاكات لحرمات الإسلام والمسلمين من قبيل تنظيم مسابقة رسوم كاريكاتورية للنبي محمد صلى الله عليه واله وسلم، على أنها ضرب من ضروب ممارسة حرية التعبير، هو بمثابة إضفاء الغطاء القانوني والحقوقي عليها.
في الواقع إن إدراج مثل هذه الانتهاكات للمقدسات الإسلامية ضمن حرية التعبير، يعني إضفاء المشروعية القانونية والحقوقية عليها، وهو من شأنه أن ينقض منظومة قيم التسامح واحترام التنوع الثقافي والتعددية الفكرية واحترام الآخر والتعايش السلمي بين الشعوب المعتنقة لمختلف الأديان والمذاهب والمنتمية إلى مختلف الفلسفات والحضارات. إذ لا معنى للدعوة إلى تلكم المفاهيم والقيم فيما إذا اعتبر التعدي على مقدسات الأديان المتنوعة مزاولة لحق من حقوق الإنسان.
فأي قيمة تبقى لقبول تعدد الأديان والثقافات، وأي احترام يبقى لها إذا اعتبر تبادل انتهاك الحرمات الدينية بين أتباعها مزاولة لحق حرية التعبير؟ أخال أن هذا التخريج القانوني ـ اذا جاز التعبير ـ سيؤدي في النهاية إلى انهيار بناء هذه المنظومة من المفاهيم والقيم التي يتفاخر بها الإعلام الغربي ليل نهار، ويدعو شعوب العالم إلى تجسيدها.
وأيا كان، ونظراً لانتشار التنوع الديني والمذهبي والثقافي في مختلف دول العالم، وفي ضوء الترابط والتشابك الوثيقين بين دول العالم، فإن من شأن انتهاك المقدسات الدينية لهذا الفريق أو ذاك أن يسبب إخلالا بالأمن والسلم المجتمعيين في كثير من الدول في العالم، وقد ينعكس سلباً على مصالحها وعلاقاتها. فلا بد من وضع سقوف واضحة ومحددة لممارسة حرية التعبير بحيث لا تنتهي إلى التفلت والفوضى والتعدي على مقدسات الغير وإحداث فتن وتوترات دينية وعقائدية بين شعوب العالم.
يشعر المسلمون بالألم العميق لهذا التشويه المتعمد لسمعتهم وسمعة نبيهم وتعاليم دينهم، لكن لا يقبلون أيضاً أن يعبر بعضهم عن هذا الغضب برفع ساطور، أو تبني شعارات وأفعال مخالفة للقانون وأخلاق الإسلام. وكل سلوك من هذا القبيل مرفوض رفضاً تاماً من دون أدنى تحفظ، ويشعر المسلمون أيضاً بالألم عندما يتهمون بمعاداة حرية التعبير من طرف بعض الكتاب والساسة الغربيين، والحقيقة أن حرية التعبير مبدأ شريف ونبيل ينحاز له المسلمون بأغلبيتهم الساحقة ويكافحون ويقدمون التضحيات من أجله في بلدانهم والساحة العالمية. والحرية أيضاً هدف من أعظم أهداف الإسلام ومن عظم شأنها في الإسلام أن شرط قبول إيمان الرجل أو المرأة هو أن يكون هذا الإيمان على الإرادة الحرة لصاحبه لأنه لا إكراه في الدين. لكن الحرية لا تعني الشتم وإساءة السمعة والتحريض على كراهية المسلمين أو السود أو اليهود أو أي عرق آخر.
وفي القوانين المعمول بها حالياً في الدول الغربية تمييز واضح بين الحرية وبين التحريض على العنف والكراهية.
والمسلمون لا يريدون التمييز بحق أو معاملة خاصة على حساب المِلل والشعوب الأخرى، إنهم يريدون فقط أن تكون لهم نفس الحقوق وذات الحماية المكفولة للشعوب والديانات الأخرى.
لا ينبغي أن نكتفي بالشجب أو الإدانة عندما يساء إلى ديننا وإسلامنا ولرسولنا وقرآننا ولمقدساتنا.. بل لا بد من تحرك عملي، ينتج عنه مراجعة السياسات الغربية، بدلاً من هذا الموقف الغربي الناقص والمائع... إن الخطوة القادمة، بالتحرك إزاء حث الأمم المتحدة لإصدار قانون دولي ملزم، بمنع إزدراء الأديان، هي خطوة وإن كانت متأخرة، إلا أنها تحتاج إلى إرادة سياسية، حان الوقت الآن لتحقيقها... ولابد من إدارة دبلوماسية إسلامية، على مستوى عال من الحرفية، للوقوف في وجه هذه الإساءات، وتفعيل العديد من الاتفاقات والمعاهدات الدولية، التي تحظر ازدراء الأديان. فالدول الإسلامية تستطيع إصدار تشريع عالمي بمنع ازدراء الأديان. فالتوصية الصادرة من الأمم المتحدة عامي 2005/2008 منعت ازدراء الأديان وصدرت بموافقة 85 دولة وامتناع 42 ومعارضة 50 وبالتالي تستطيع وفقا لهذه التوصية التقدم بتشريع ملزم تتبناه الأمم المتحدة أو التوصل لاتفاقية دولية بين الدول الأعضاء.
ألا تستطيع الدول العربية والإسلامية أن تستصدر قرارا أمميا ملزما يحرم الإساءة إلى الأديان والرموز الدينية المقدسة عموما؟ بخاصة أن هناك أكثر من 120 دولة من دول حركة عدم الانحياز وهي في مجموعها لابد أن تقف في صف صدور تشريع أو قرار كهذا؟ أيضا علينا أن نفهم الدول الداعمة لمثل هذه الاستفزازات أنها يمكن أن تدفع ثمنا باهظا إن هي استمرت في استفزازنا والإساءة إلى ديننا ورموزنا وقيمنا؟ النفط بين أيدينا والتجارة والاقتصاد والموقع الاستراتيجي.. فما بالنا لا نتخذ القرارات اللازمة؟ أم أننا منهمكون في كيفية الكيد لبعضنا العربي أو المسلم؟
لقد آن الأوان من أجل أن تتجاوب الأسرة الدولية مع هذه المطالب العادلة فتسن قانوناً دولياً ملزماً يحمي الإسلام وسائر الديانات الأخرى في العالم من الحملات الظالمة التي تستهدف تشويه السمعة والتحريض على كراهية الشعوب بسبب انتمائها الديني ولن يكون هذا القانون بدعة تخترع بسبب إلحاح المسلمين إنما هو أمر معمول به في بريطانيا، حيث يوجد قانون يحمي المسيحية وقانون آخر يضمن حماية اليهود والسيخ ولن يضار أحد في العالم إذا استفاد العالم كله من التجربة البريطانية ووسعها لتكفل حماية الإسلام وسائر الديانات الأخرى.
هذا القانون أصبح اليوم مطلباً ضرورياً مستعجلاً ليس فقط من أجل حماية الإسلام والمسلمين من خطاب التحريض والكراهية ضدهم، لكن أيضاً من أجل حماية بقية الأديان، ومن حماية حرية التعبير والحيلولة دون استخدامها شعاراً تتستر به النزعات العنصرية وأيضاً من أجل السلام العالمي ومن أجل إتاحة الفرصة لتنمية علاقات الصداقة والتعاون بين المسلمين وأوروبا وبينهم وبين الغرب عموماً.
نريد في العالم الإسلامي أن نتحرك في هذا الاتجاه... علينا أن نضغط بكل ما أوتينا من قوة، سياسية ومادية واقتصادية وثقافية، لمنع ازدراء الإسلام، أو التعرض لمعتقداته، أو رموزه الشامخة... يمكننا أن نترجم ذلك، على الواقع، بدلا من العنف الذي نلجأ إليه، للتعبير عن رفضنا، لهذه المواقف الكريهة، من قلة جاهلة، لا تعرف قدر الإسلام...
اضافةتعليق
التعليقات