في زحمة هذا العصر الصاخب، حيث تصرخ الشاشات في وجوهنا بكل باطلٍ، وتغوي نفوسنا كل زائفٍ رخيص، وتتهاوى حصوننا الواهية واحدًا تلو الآخر، بينما تغرقنا الماديات في دوامة لا قرار لها، وتُثقل أكتافنا همومٌ كالجبال: همُّ الزيادة، وخوفُ الذهاب، وصراعٌ لا ينتهي ننسى فيه أن نلتفت إلى أعماقنا، فتنهك أرواحنا حتى الإعياء، وتسقط قلوبنا رويدًا رويدًا في سباتٍ عميقٍ مخيف، نفقد فيه صلتنا بأنفسنا أولاً، ثم بصانعها ومبدعها، حتى إذا بنا على شفا حفرة من النسيان، ننسى لمَ وجدنا، وما سرُّ وجودنا.
وفي غمرة هذه الغفلة القاتلة، نبدأ نحن بأيدينا نحكم إغلاق قلوبنا، فنقفل عليها بأقفالٍ ثقيلة تحجب عنها النور والرحمة: مثل قفل الغرور الذي يصم آذاننا عن سماع الحق، وقفل القسوة الذي يقتل الشفقة في أعماقنا، وقفل الأنانية الذي يحبسنا في سجون ذواتنا الضيقة، وأحيانًا قفل اليأس القاتم الذي يطفئ آخر شمعة من الأمل، فنصبح - يا للأسف - كما وصفنا ربُّ العزة: ﴿أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾، قلوبٌ مغلقة محكمة، لا يدخلها نور الهداية، ولا نداء الفطرة، ولا صرخاتُ الآلام من حولها، فلا ندرك أننا بحاجة إلى صفعة استيعاب توقظنا من سباتنا، أكثر من ألف نصيحة.
وها هو شهر محرم يأتي كتلك الصفعة التي تدوي في صميم الوجود، شهرٌ يهزنا بذكرى واقعة كربلاء، مشهد القلوبِ المفتوحة على سعة السماء: قلبُ الحسين (عليه السلام) وأصحابه، حيث كانت مشرعةً أبوابُ قلوبهم للإيمان، متسعةً للتضحية والفداء. وفي المقابل، هناك قلوبٌ قست حتى صارت كالحجارة أو أشد قسوة، أقفلت على الباطل والطغيان، حتى سُدَّ كل منفذ للنور، لتصبح كربلاء مرآتنا اليوم.
كربلاء مرآتنا الصادقة
ها نحن نقبل على أيام الحسين (عليه السلام)، فإن كنا نحبه، أو حتى ندعي حبه، تأتينا ذكراه مرآةً صادقةً لا شائبةَ عليها، ترينا انعكاس أقفالنا البغيضة على صفحات ضمائرنا، وتُلقي علينا سؤالًا مزلزلًا:
أين قلوبُنا من هذا المشهد العظيم؟ أم عليها أقفالُها؟
وعلينا الإجابة، حتى ولو كنا نسير خلف السائرين دون عقيدة تحيي القلب، وإن كان فعلنا مجردَ مظهر، فإنه من الممكن أن يلامس الجوهر فينا فيحييه على حين غفلة. لذلك، فليكن محرم صرخة التحرير التي ندق بها بعنفٍ على قفل غرورنا حتى يتصدع، ونذيب قسوة قلوبنا بدموع الندم والتضرع حتى تلين، وننزع عنا رداء الأنانية بجرأة لنسمع صوت الحق يخترق ضجيج العالمين، ونسمح لنسمات الإيمان أن تهبَّ من جديد على قلوبنا المقفلة، فتتحول من صحراء قاحلة إلى جناتٍ وارفة، تُروى بدموع التوبة، والحزن على سيد الشهداء، بكل الطرق التي نشعر أنها تعبر عنا.
فهل تراك ترى تلك المشاهد التي تتكرر؟
العجوزُ الذي يمد يدًا مرتعشةً بكسرِ الماء ليروي ظمأ السائرين، والطفلُ الذي يدفع قرشًا من حلواه، والغنيُّ الذي ينسى ثرواته ليرفد المحتاجَ...
هذه ليست مشاهد عابرة، إنها شهودٌ حيَّة على أن الأقفال واهية، شواهدُ على أن القلوب - إن أرادت - تستطيع أن تتحرر.
بحبّ، فهو أقوى من كل قيد؛ حبٍّ يجعل الناس في هذا الشهر الجليل ينسون الفوارق، ويذوبون في بوتقة الإنسانية والعبودية لله.
فحتى ولو رأيتَ شخصًا تغيَّر في هذا الشهر، عليك أن تشجِّع فعله، لا أن تذكّره بما قبل، فربما هي هذه اللحظة التي كسر فيها قفله، وربما هو يحاول ليصل إلى ما وصلتَ إليه.
فانظر جيدًا، قلوبنا ليست حجارة.
وبما أننا على أعتاب أيام تذكرنا بأن القيود التي نقيد بها قلوبنا ليست حتمًا أبدية، وأن الأقفال التي نحسبها من حديد، ما هي إلا أوهامٌ صنعناها بأنفسنا من خوفنا وغرورنا وغفلتنا، فركِّز.
أتسمعُ ذلك الصوت؟
طقطقةُ الأقفال وهي تتحطم على أعتاب مشهد الحسين (عليه السلام)، والدموع لا تكاد تُدرك مقلتيها، فتذيب صخور القسوة، وتغسل غبار الأنانية، والقلب الذي كان ميتًا فعاد ينبض بنور التضحية، وصوتُ همسة الفطرة التي طالما خنقناها، فعادت تنادي من أعماقنا:
"هلموا إلى النور."
ففي الحقيقة، كربلاء لا تعاتبنا على أقفال الماضي، كربلاء تمدُّ لنا مفتاحًا في ليالي محرم المظلمة اسمه: "الاختيار."
اختيار أن نرفع أيدينا المرتعشة، ليس للسلام على الحسين فحسب، بل لكسر قيودنا بضربة واحدة نحو الحرية:
حرية القلب من سجن الذات.
حرية الروح من عبادة المادة.
حرية الضمير من سبات الغفلة.
فلا تنتظر غدًا، فالغد قد يكون أقفالًا جديدة. ففي اللحظة التي سيدوي فيها في أذنك صرخة: "هل من ناصرٍ ينصرني؟"، تلك الصرخة التي تسير عبر القرون، هي الصفعة التي يحتاجها المؤمن، فاقبض على المفتاح الذي تقدمه لك أيام الحسين (عليه السلام)، ودع نور كربلاء يتسرب عبر شقوق أقفالك، ودع حب الحسين (عليه السلام) يحرق فيك كل ما سواه.
وستجد قلبك، الذي ظننته حجرًا، أرضًا خصبةً تنبت رحمة، وتُزهر إيمانًا، وتثمر عطاءً لا ينضب.
فما أهون الأقفال حين نواجهها بإرادة التحرر، وما أعظم القلب الإنساني حين يشرع أبوابه لشعاع الهداية.
فهيا بنا نكسر أقفالنا مع أول ليلة من ليالي الحسين (عليه السلام)، قبل أن يُغلق الغرور أو اليأس الباب من جديد، قبل أن تتحول قلوبنا - لا قدّر الله - إلى حجارة صماء أشد قسوة من تلك التي حذرنا منها ربنا.
فأما آن لقلوبنا أن تتحرر؟ أما حان وقت الفِكاك؟
اضافةتعليق
التعليقات