الكتاب: صداح زينب
الكاتبة: تسنيم الحبيب
عدد الصفحات: 156
جالسةً على سجادتها تمسك جبل الصبر بقرآنها تتهجد في هذا الليل الكئيب فصباحها المقبل يحمل بين طياتة نبوءاتٍ أليمة.. تتصفح ذاكرتها.. وقول جدها (إن هذه البنت ستُبلى ببلايا وترد عليها مصائب شتى ورزايا أدهى) لعلك يا رسول الله معها تخفف عليها وطئة تلك الرزايا..
استمرت بتصفح ذاكرتها حتى وصلت إلى تلك الرؤيا التي ذاقت بسببها الطعم الأول للخوف فقصتها على جدها هطل دمعه غزيراً أليماً فألقى عليها التأويل وهاهي الآن تتأمل المشهد من شرفة الذاكرة فتجول بطرفها إلى أخبية الحزن وكيف القلوب الزكية تخبز قرص الصبر لجوعها القادم.
حسر الظلام رداءه على وجه الصبح الكئيب وأمسك الترقب بتلابيب القلوب.. تتفقد العقيلة الخيام ومَن فيها حتى استقرت في خيمة زين العابدين -ع- الذي هيمنت عليه العلة وأعاقته عن النهوض فكلما نظرت إليه ترى إرث أبيها الزاهي بنفحات المحراب والنجاوى العذبة..
انتبهت إلى صوت أخيها يلقى ثيمة الوعد (اليوم أقتل وتقتلون كلكم معي ولا يبقى منكم إلا ولدي علي زين العابدين).. قامت تسرق من الزمن المتبقي فتطيل النظر إلى العباس ركنها الشديد وفارسها الذي تتفجر الحمية من زواياه يذوب قلبها تريد أن تتماسك فيقتحمها صوت أخيها الحسين بترنيمة حزينة (.... كم من كربٍ يضعف عنه الفؤاد وتقل عنه الحيلة...) فأجاب قلبها (ماذا يجدي قطر الدجن في بلقع الموت يا أخي..).
حسرةٌ تموج بفؤادها وجهت طرفها إلى الكوفة شهقت مع الذكريات اللحوحة ليته ينفض غبار الموت ويشد على رأسه عصابة توقف نزف الجرح المطول الماثل حتى خطفتها الذاكرة إلى ذاك اليوم حين خرج أباها راجلاً وعاد محمولاً على أكتاف إخوتها يتقاطر الدم من عمامته..
كانت لحظة صمتٍ صاخبة حتى شقت السهام سكون الترقب فتسارع الأنصار لـ لعق صابة الموت فيرشفون منها شهداً مصفى.
استشهد صَحب الحسين جاء الأقمار ليودعوها قضم الحزن قلبها وخلع نبضه أصبحت ثكلى خاوية إلا من نيران الفجيعة بعد استشهاد شباب آل محمد أحست بأوار يحرق جوفها ترفع طرفها للسماء تناجي المغيث الذي يجيب المضطر إذا دعاه..
ابتلعت غصتها بعد أن رأت أشبال أم البنين قتلى فصور مصارعهم المقذية تطفح في الأخيلة.. بقي العباس اقتربت منه فاحتواها بواحتيه ثم أدار عينيه نحو الحسين طالباً الرخصة.. ودعها العباس وتركها لليالي المدلهمة.. خلت القفار إلا من الفحيح..
كل ذرة من كيانها تصرخ "الغوث الغوث" حين رأت الحسين يخطو بانكسارٍ يُفجع جوارحها فامتلأت البوادي نحيب الغريب الظمآن "الآن انكسر ظهري" ضمها الحسين إلى صدره يذيبها في تغييب مؤقت ولكن لا عزاء تشبثت بصدر الحسين إنها لحظات فقط وتصير بلا صدر.. ويصبح كل الذي مضى غير الذي يقبل والعاقبة للمتقين..
خطت فلاقت الحسين مرتدياً عمامة جده، متقلداً سيف أبيه ومعطراً بطيب أمه وحنانٌ منكسر يفيض من عينيه.. تأملت خطواته الآسية وهو يحمل رضيعه صوب الوغى.. أقنت ثمة مصابٌ جلل على وشك الظهور.. فسُقي الرضيع بدمه الحار..
ذرف دمعه وأطلق أذان الإباء.. إنه الوداع الأخير أمطرنه بالدموع.. أمسك الحسين بيد زين العابدين قائلاً (يا ولدي.. بلغ شيعتي عني السلام وقل لهم إن أبي مات غريباً فاندبوه.. مضى شهيداً فابكوه).
آه يا كربلاء كم مرة سُقيتِ من نزف المقل؟ وشاء الله أن يرفع القربان..
هو قربها وإن أخذوها عنوةً من جسده، كانت تدنو منه وإن ابتعدت.. اختسلت مكاناً تصلي نوافل ليلها الأوحش وتردد: "هذا مقام العائذ بك من النار.. الراجي قبولك قرابينه السخية" مزقت أوصالها الذكريات اللجوجة، تصر على العبث بسكينتها وترفعها إلى سماء الوجع البعيد.
كم تغزلين الأسى أيتها الرحلة المستطيلة، لكنك أيضاً تُبدين ما أرادوا أن يكتموه!. دخلوا الشام فكانت زينب تؤازر الكرم الإلهي وتشق الطريق بخطبها وآياتها البينة فتعين علياً الساجد ليرفع التساؤلات إلى وضوح الحقيقة.. فتزينت دمشق بالدفوف والصنوج والأبوق..
لا بأس إنها زينب.. ومعين مضائها لا ينضب، جلست في المدينة آسية في حلةِ عزاءٍ متصل أيامها مآتم وضيئة لا تفرغ.. يا مأتم الصبر اتركي البدن الكادح، احملي أحزانكِ في رحال الوداع، فأنتِ وأحزانكِ عروةٌ لا تنفصم..
اضافةتعليق
التعليقات