تميل آخر العنقود ذات الأربعة عشر ربيعاً في بيتنا للعزلة بين جدران غرفتها لساعات طويلة، وحين أسترقُ السمع علني ألتقطُ بضع إشارات لما تفعل أجدها تُدندن ببضع كلمات لا أفهم منها شيء لكن ما أعلمه جيداً إنها بالتأكيد ليست كلمات إنكليزية !
وبعد ساعات تقضيها بُمغازلة وحدتها تطلُ علينا كأنها زهرة شاحبة آيلةً لسقوط فهي لا تأكل إلا النودلز كما تُسميها وماعادت طريقة أمي بطبخ الرز تستهويها لأنها تفضَّله رزاً مخلوطاً كي يصبح اسمه البيميباب!
ذات مرة قررتُ إنتهاك وحدتها وتخريب طقوسها ! فطرقتُ الباب وأشعلتُ النور وهذا أكثرُ ما يستفزها، فهي تعتقد أن الجلوس بالظلام يجلب الكثير من الطمأنينة وأن النور يُشتت الفكر ويوهم الصورة لديها !
القانون الثاني الذي بادرتُ بإنتهاكه أنني عبثتُ بتصفيفة شعرها الغريبة ! ماذا فعلتُ أنا؟ قلتها مازحة !
لكن النظرة التي إرتسمت على وجهها البريء لم تعرف المزاح أبداً إنما ما شفع لي كوني أُختها الكبرى.
ماذا تريدين مني؟ لماذا عبثتِ بشعري؟ هل تدرين كم الجهد الذي بذلته لأتقنَّ هذه التسريحة ؟
بادرتها بسؤال مباغت ولمَ هذه ؟ ماالذي يجعلها مميزة؟ فصرخت بعفوية وإندفاع لأنها تسريحة RM ؟ ما هذا الـ RM ؟ هل هو فنُ جديد لتصفيف الشعر؟!
تعالت هستيريا الضحك عندها وكأني أجبتُ خطأ عن سؤال حساس ؟ أو لم أعرف شيئاً بديهياً بدأ لها من الغباء أني لا أعرفه !
قالت: هذا قائد فرقة الـB T S كيف لا تعرفيه؟ ولماذا يجب عليَّ معرفته ؟! هل هو مهم لهذه الدرجة؟ أجابت بإمتعاض وغضب، طبعاً مهم جداً ! كيف لا تعرفيه؟ حسناً إذاً أخبريني عنه ؟ وفي داخلي بحُر متلاطم من الأسئلة، ما سرُ هذا التعلق والإندفاع؟
فقالت حتى تعرفينه لابد لكِ من الإنضمام لكروب الآرمي ؟
إذن دعيني أنضم ! فتعالت ضحكاتها مرة أُخرى ولكن هذه المرة بهستريا أعلى ! ماذا هناك هل أطلب الإنضمام لهيئة الأُمم المتحدة ؟
بل أهم ولا يمكنكِ الدخول إلا بعد الجواب عن أسئلة الآدمن؟! وأظنكِ لن تنجحي! وعلامات الفخر تملىء وجهها وكأنها حققت إنتصاراً معرفياً عظيماً على أُختها الكبرى ؟ ولمَ ؟
لأنكِ وببساطة تامة غير قادرة على إجابتها؟ ولماذا؟ لأنها عضوية بالغة الأهمية وحتى تتمكني من الفوز لابد من إجتياز الاختبار الدقيق جداً بنجاح؟
للوهلة الأولى خلتها تُعظم الأمر كما هو الحال عند المراهقين ! فاقترحتُ عليها إقتراح لتساعدني على الإنضمام !
قلتُ لها اجلسي معي وأجيبي على الأسئلة فأنا لا أقوى على مقاومة شغف الإنضمام لـالآرمي
حين جلستُ أنتظر الأسئلة وهي بكل شغف تدسُ كل رأسها بشاشة اللاب توب مزهوة منتصرة تتطاير علامات الفرح من هنا وهناك فقد تمكنت وأخيراً من كسب عضو جديد بين صفوف جيشهم المخلص !
وماهي إلا ثوانٍ وحين تُلقي نظرة على دقة الأسئلة حتى تستشعر حجم الكابوس الذي دهاك ؟
والصدمة التي شعرتُ بها توخز أطرافي كانت بعمق الفجوة التي بيننا، الأسئلة لم تقتصر على معرفة تواريخ ميلادهم وأعمارهم وديانتهم بل تعدت لتشمل أطوالهم وأوزانهم وتواريخهم المفضلة، أفلامهم وكتبتهم وعاداتهم والأكلة المفضلة لديهم بل حتى مدارسهم الابتدائية وأصدقاء الطفولة وأول حب بحياتهم !!
جدول حفلاتهم وموعد البثوث المباشرة لهم ومختلف فعالياتهم؟ ماذا حدث بهذا اليوم؟ وماذا فعل فلان !متى صبغ شعره بهذا اللون؟ المقلب الذي فعله بزميله بل وحتى الحالة المزاجية لكل واحد فيهم ؟!
وبعد أن تجيب عن هذه الأسئلة الدقيقة تكون مُؤهلاً للإنضمام بين صفوف الآرمي (الاسم الذي تطلقه الفرقة على مُعجبيها فيصبح هوية لهم).
الهاليو أو الموجة الكورية تسونامي يجتاح بيوتنا ويستحوذ على عقول شبابنا بخطة مدروسة ومُعدة من سنوات طوال !
ولا تحتاج لأكثر من نظرة ثاقبة وتأمل حتى تدرك حجم التخطيط الذي يقفُ وراءهم، وتستوعب مدى التعلق الذي يستحكم قلوب مراهقينا وشبابنا ستدرك إن الأمر تعدى كونه إعجاباً بقدر ما هو هوس وجنون !
بل ما عليك سوى أخذ نظرة ثاقبة لبعض الإحصائيات حتى تعرف حجم الغزو الذي طالنا دون أي هوادة ففي دبي وتحديدا في مركز برجمان الشهير للتسوق افتُتح مؤخراً متجر "سبيس أوف بي تي إس" (Space of BTS)" والذي شهد اصطفاف طوابير طويلة من محبي الفرقة الكورية الأشهر على الإطلاق ويمكّن المتجر الجديد زواره من شراء مختلف أنواع المنتجات المُرتبطة بالفرقة الكورية مثل الملابس والإكسسوارات والصور والمجسمات كما يمكن للرواد من معجبي الفرقة أيضا التقاط الصور التذكارية المميزة !
وتذكر الإحصائيات أن أكثر مشغلي الكي بوب من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في الفترة من 2014 إلى 2020 هم من السعودية والإمارات ومصر والمغرب والجزائر على الترتيب وإذا كانت السعودية هي الأكبر فإن مصر هي الأسرع نمواً بزيادة 33% منذ يناير/ كانون الثاني 2019 حتى 2020 وهو ما ظهر واضحاً في حفل فريق بي تي إس الذي أقيم في المملكة العربية السعودية في موسم الرياض 2019 وشهد حضور أكثر من 60 ألف متفرج !!
قيل: لا شيء أقوى من سلطان الحب، نحن نضحي لأجل الآخر ، ويدفعنا الحب لنتحمل الأعباء ونستمتع بها !
ويدفعنا الحب نبحث عما يحبه المحبوب ونسعى لرضاه ، ويدفعنا الحب ويدفعنا . ..
ولأجل هذه الفطرة البشرية مكث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة زمناً طويلاً يُعرَّف الناس بربهم ..
أسمائه وصفاته، عظمته وكبريائه، خلقه وأنعامه، رحمته وعذابه !
حتى إذا تجذر حب الله في القلوب وامتلات به النفوس يأتي السؤال الطبيعي، ماذا يحب الله وماذا يكره؟ لتبدأ نقطة التحول الحقيقي في حياة كل واحد فينا لتكون حياته ومحبوباته ومكروهاته موافقة للمحبوب الأعظم وهو (الله وأهل بيته الأطهار).
إذا عرفنا هذه الطبيعة البشرية سنعرف لماذا يصعب علينا فعل الأوامر الشرعية مع علمنا بوجوبها ولماذا نفعل الأشياء المُحرمة مع علمنا بحرمتها، كلما تعلّمت أكثر عن الله ازداد حبك له ورجاؤك لثوابه وخوفك من عذابه ! فنتحول من جيش الآرمي أو الأكسو أو … إلى جيش الله المنصور؟!
الخلل ليس بالغزو وليس بسبب جهلنا بالأوامر والنواهي فنحن نعرفها جيداً بل بسبب عدم معرفتنا بالخالق معرفة حقيقة توجب محبته ! عدم حبنا للوطن فرضينا باحتلاله !
اضافةتعليق
التعليقات