يُروى عن السيد المسيح انه قال: الذين سبقوني قالوا إن أهم حجر يوضع في البناء هو أول حجر، وأنا اقول لكم؛ اهم حجر يوضع هو آخر حجر!.
كذلك سنّة الحياة، فالطالب قد يدرس سنوات عدة في المدرسة أو الجامعة وقد يتفوّق ويُبلي بلاءً حسناً في المراحل السابقة، ولكنه بدون السنة الاخيرة ستذهب جهوده أدراج الرياح، ورغم حصوله على رصيد علمي يؤهله للنجاح إلا أنه عملياً بات بلافائدة، فمن لم يؤدِ ويجتاز الامتحان النهائي لن يستلم شهادة التخرّج لأن تعليمه ناقص، وكأنه لم يدرس أساسا!.
وضمن النهج الديني كذلك، هناك مدارس، محطّات، طُرق، عليكَ العبور من خلالها لتحصل على وثيقة التخرّج، وكلما تعبت اكثر كانت درجاتك أعلى وستكون منزلتك أرقى في الدنيا كما في الاخرة، يقول تعالى: (ياأيها الانسان إنك كادح الى ربك كدحا فملاقيه)..
وهذا المسير لم يكن يوماً عشوائياً، هو مرسوم من قبل الله وعليه علامات واشارات توضح الوجهة الصحيحة وتحذّر من المنحدرات، فحاشا لله أن يتركنا نتخبّط وحيدين في متاهات الدنيا..
ورغم ذلك اختلف الناس واختلطت الاوراق بعد أن كانوا معاً في باكورة الطريق، وراية الاسلام بعد رسول الله (ص)، لم تبقَ في يدٍ واحدة ولم تتناقل الى الاجيال بعدلٍ وانصاف، فهناك وفي مكانٍ ما وزمنٍ ما قد تغيّرت الراية وحامل الراية!، وكل فئة تدّعي الوصل بها، وكلُ يجرُّ النار الى قرصه، ويقول أنه هو المنهج الصحيح والفئة الناجية من النار من بين ثلاث وسبعين فرقة..
وعندما نريد أن نعرف الحق علينا ان ندرس كل دين او مذهب أو عقيدة أو فكر، بطُرق عديدة ومنها: الدراسة من خلال ذات الشيء، أو من خلال اثاره ونتائجه، او من خلال التفكير المنطقي المتسلسل مع الربط التاريخي، او من جملة القرائن والادلة، او من احكامه التي يهضمها العقل، وتسهل على النفوس تحملها.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، عندما ندرس الفكر الماركسي او الشيوعي، قد يراه البعض قويا كفكر، ولكنه على أرض الواقع ومن خلال نتائجه أو بالاحرى أزماته، ثبتت أخطاؤه، وإن درسنا ديانة ما في مكانٍ اخر ولم يقدم معتنقيها ادلة اثبات احقية او جذور (مخترع هذه الديانة) بذلك ستفشل بلا شك، وكذلك في يومنا هذا الفكر الداعشي وخطه الارهابي الذي يحرق البلاد بآلاف المفخخات لايقبله عقل ولاقلب..
اذن، ليس من الصعب أن نفهم وان نعرف مواطن الخلل، وعليه، لماذا لانشرع النوافذ ونرى شمس الحقيقة؟!
فمثلاً ادعّاء الشيعة بأحقية مذهبهم مامدى صدقه.. ومقولتهم بأنهم أصحاب الدليل أينما مال يميل مامدى قوتها، وإن كانت رسالتهم هي ذاتها رسالة رسول الله، لمَ لم يأخذ بها كل المسلمين، ولمَ ابتعد عن بعض بنودها ابناء المذهب ذاته؟!
قبل تقديم احتمالات الاجابة، من الواجب احترام آراء وقناعات الاخر رغم الاختلاف، ولغة الحوار أسلوب مهم للوصول الى الحقيقة وهو هدف كل إنسان يبالي حقاً في معرفة الى اين وكيف يمضي في هذه الحياة، ومبدأ الحوار للوصول الى الحقائق من مناهج اكثر الديانات، ومن ادواتها الابتعاد عن الاحكام المسبقة والتطرف الفكري والتعصّب للذات وللجماعة..
نحن الشيعة نرى ان احد أهم اسباب اختلاف المسلمين، يختصرها قول لاحد الفلاسفة حيث يقول: لو أُفلت الأسد لعمّ الاسلام الأرض!.
الأسد بمقصود هذا المسيحي كان أسد الله ورسوله علي بن ابي طالب، وفعلاً الطغاة على مرّ التاريخ لم يفسحوا المجال لعلي وابنائه، لقد حبسوا تلك الانوار ظلماً وعدوانا، وكذلك حاولوا طمس معالم عيد الغدير، ذلك الحدث التاريخي، حيث اليوم الذي تأسس فيه خط الامامة، والذي بايع فيه اكثر من مئة ألف علياً!.
وإن عدنا الى طرق دراسة أي فكر، نحن نملك في جعبتنا أدلة تثبت هذا الركن الاصولي المهم، فالقرآن الكريم وبصريح آياته يقول: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون).. والمفسرين يجمعون انها نزلت في علي..
وآية الغدير المتمثلة في قوله تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ماأُنزل اليك من ربك.. وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لايهدي القوم الكافرين).. وآية: (اليوم أكملت لكم دينكم)... وهاتين الايتين وردتا في سورة المائدة ويجمع المسلمون انها اخر سورة نزلت على رسول الله (ص)، وهذا يعني ان النبي بلّغ عن الصلاة والصيام والحج قبلاً، وحين اتى الامر الالهي جاء بصيغة تهديد، فهذا يعني أهمية الركن الاخير، ألا وهو الولاية فمن دونه الدين ناقص كما صرّح القرآن..
أما تاريخيا فالحادثة وقعت وباتفاق واجماع العامّة، وتناولتها روايات مستفيضة ومتواترة، والعلامة الاميني في موسوعته الرائعة (الغدير) اختصر الكثير من الصحائف علينا وهو الذي بحث بهمّة لاتعرف الوهن وخلال اربعين عاما من حياته في كل مايتعلق بهذا اليوم وجمع كل من نقل الحديث وذكرهم بدقة..
وعلى سبيل الطرافة، حارَ بعض المفسّرين كيف يلتفّون حول هذا الحديث، فقالوا ان رسول الله يقصد بذلك أنه يحب ويودّ عليا، أولم نكن نعرف ياترى أنه يحبه قبلا! أوَ يجمع الناس في رمضاء الصحراء ليخبرهم بذلك، أم لأمر حاسم أخطر وأهم وهو الذي لاينطق عن الهوى! ولماذا اذن هنأ جمع من الصحابة عليا وقالوا له: بخ بخ ياعلي.. لقد أصبحت ولي كل مؤمن ومؤمنة، أكانوا يباركون له محبة رسول الله؟!.
هذه واحدة، واخرى انها قضية منطقية وسنّة الهية، وهي تعيين الوصي من بعد كل نبي من قبل الله، من نبينا ادم الى خاتم الرسل محمد (ص)، فموسى عندما غاب عن قومه أربعين يوما كان لابد من وصي، ومع ذلك اتخذوا العجل من بعده، فكيف بمن يغادر هذه الدنيا، فليس من المعقول أن تُترك الأمة من دون خليفة، وان يختار الوصي مجموعة من الاشخاص وعلى حسب امزجتهم ومصلحتهم، هذا خلاف الفطرة والحكمة..
وقبل هذا، كل انسان منصف يعلم ان علي هو الاحق بها، لأن كل القيم تجسدت فيه فلا احد مثل علي في العبادة والعلم والعظمة والتضحية والاخلاص والانسانية والزهد والحكمة وحسن الادارة.. وهو الذي نجح في حكم دولة تضم حسب التقسيمات السياسية الجديدة حوالي 50 دولة..
وإن درسنا قضية الغدير وإمامة علي من خلال النتائج والاثار، فإن البشرية جمعاء لن تنسى ماجسدّه الامام في سني حكمه حيث لم يتواجد فقير واحد في بلاده!.
نعم، فكما يقول المثل: كل الطرق تؤدي الى روما، هذا جغرافيا، فيقال أن مدينة روما أرادت ان تبني دولة قوية وتترأس زعامتها، فقامت بفتح البلاد المجاورة لها، ولكن واجهتها صعوبة المواصلات، ووعورة الطريق فعمدت الى ربط كل مدينة تفتحها بطريق مرصوف يصل في نهايته الى روما حتى تبقى هذه المدن المفتوحة تحت سيطرتها، فأصبح كل طريق يصل في نهايته الى روما..
وكل الطرق كذلك تؤدي الى الغدير وصاحب الغدير، ذاتيا ونتائجيا، نقلا وعقلا، فالغدير قضية متينة وقوية ولها العديد من الحجج الدامغة الدالة عليها، ولكن تواجهها صعوبة المواصلات ووعورة الطريق المتمثل بالدعاية الكاذبة والاعلام الذي زيّف الحقائق وخلط صفحات التاريخ، وأوّل أفعال وأقوال الرسول (ص) كما يهوى..
ولكننا نعيش في زمن الغى الاثير فيه هذه المواصلات ومهّد الطريق لمن يريد أن يعرّف العالم على عقيدته وافكاره، فكل فرد يتحمّل مسؤولية نشر منهج وعظمة وموقع الغدير، الذي هو منهج التوحيد اولا، فمولانا علي هو مولى الموحدين، وذلك رداً على من يتهمنا بالشرك، واتفاقا فإن يوم الغدير هو يوم عبادة، يستحب فيه الصوم، والصلاة والسجد لله لشكره على هذه النعمة، وهو يوم غفران الذنوب والعتق من النار، فعلي هو وسيلتنا الى الله، وفي رواية انه يعتق في هذا اليوم ضعف مايعتق في شهر رمضان..
ولا غلو، فرمضان وفريضة الصيام من فروع الدين، وكذلك فريضة الحج، إلا أن الولاية التي تلحق النبوة من أصول الدين، لذلك فعيد الغدير هو عيد الله الاكبر (واعظمها حرمة) كما قال عنه الامام الصادق (ع)، وبولاية صاحب المناسبة يكمل الدين وتتم النعمة..
وبعد كل ماسبق يتساءل المرء، لماذا بعد كل هذا يُرفض علي ويؤخر وهو الاول ويُنكر الغدير ويُأوّل؟!
قد يكون بغضا وحسدا، فعلي لو أسقى المنافق عسلاً ما ازداد إلا بغضاً! كما عبّر عليه السلام عن ذلك، فاولئك ينصبون العداء لعلي وشيعته وهم بلا شك يعانون من لوثات روحية وفكرية لأنّ من يبغض عليا يبغض الحق المطلق، (فعلي مع الحق والحق مع علي)..
وقد يكون خوفا، فمعاوية ومن دار في فلكه قال: اقطعوا العطاء عن كل من يوالي أبي تراب، وشيعة علي عُذبوا وتشردوا على طول التاريخ بسبب اولئك المجرمين..
وقد يكونون ضحايا اكاذيب التاريخ!، نعم ألم يقل هتلر: السواد الاعظم من الناس يسقطون بسهولة اكبر ضحايا لكذبة كبيرة وليس صغيرة..
بالفعل وقوع الشعوب ضحية لهذه الاكاذيب العظمى اكبر واسهل من غيرها، وهتلر لم يكن يقول قوله هذا لولا وجود وزير دعايته (غوبلز) والذي كان من اقوى اسلحته، وهو صاحب مقولة: اكذب اكذب حتى يصدقك الناس!.
فعندما تبث الاشاعات وتقلب الحقائق ويشوّه الفكر يرى الناس الحق باطلا والباطل حقا، وعلى اساس ذلك من السهل ان يُصدقوا ان اثارة هذه المواضيع فتنة!، وان الفتنة نائمة لعن الله من يوقظها، وان من نكث بيعة علي كان أعلم من رسول الله بمصلحة الأمة!.
ومن جانب اخر يصعب عليهم تصديق قول علي: لاتنظر الى الرجال، انظر الى الحق، ويصعب عليهم تصديق ان تعيين الخليفة ليس من شأن البشر!.
من السهل عليهم النقاش في الفروع ويجدون صعوبة في مناقشة الاصول والجذور!، من السهل عليهم ان يصدّقوا بعض رجال الدين، ويصعب عليهم ان يكلفّوا أنفسهم قليلا عناء قراءة التاريخ!.
من السهل عليهم ان يصدقوا ان (داعش) وفكره شيء جديد وغريب وليس له اي جذور في التاريخ، ويصعب عليهم مطالعة صفحاته التي تذكر النهج الذي على أساسه وُطأ (سعد بن عبادة) بالاقدام، لانه فقط رفض ان يبايع رجلا!، وهو ذات النهج الارهابي اليوم، واسلوب داعش في الحرق والتعذيب ورمي الناس من الابنية ايضا ليس جديدا هو ذاته اسلوب خالد بن الوليد وصلاح الدين الذين يصورهم لنا التاريخ بطلا، والاخير قد احرق بلدة يسكنها خمسون الف انسان بالنار!.
من السهل عليهم زيارة قبر الصحابي الجليل حجر بن عدي، ويقرأون ببلاهة عبارة: هذا قبر الصحابي حجر بن عدي رضوان الله عليه قتله الخليفة معاوية بن سفيان رضوان الله عليه!! ومن الصعب عليهم تأمّل هذه العبارة قليلا!.
أمّا لمن يوالي عليا، حري به ان يعلم ان عليا مدرسة، انتماؤه لها نعمة يُشكر الله عليها اولا، ومن ثم معرفة ان مسؤولية النجاح في دروسها ليس سهلا، وقد سقط الكثير في اختباراتها، أن تبايع عليا يوم الغدير يعني أن تقتدي به، أن تقبل شروط البيعة، ان تحمل منهجه وتطبقه وتعرّف العالم على سلوك واخلاق وادارة وعبادة أميرك ومولاك..
في عيد الغدير قال رسول الله (ص) ضمن خطبته الغديرية: ألا فليبلغ ذلك منكم الشاهد الغائب والوالد الولد..
وقد بلّغ اجداد شيخ فقيه يدعى أحمد الاميني ذلك، حتى وصلت اليه، وبلّغها بدوره لابنٍ له ويدعى عبد الحسين الاميني، فماذا فعل الاخير بهذا البلاغ، لقد وفى أجمل وفاء وبلّغ البشرية جمعاء عن طريق موسوعته الخالدة (الغدير) فتشيّع بسببها اغلب سكان ايران، والى الان يتشيّع الكثير بفضلها، كيف لا وهو يملك ذلك الاخلاص والتفاني المتجسد بقوله:
إني اعاهد الله ان انذر عمري لهذا العيد، وسأكون شاهداً مع الشمس والغدير، وسأنثر من عبق هذه الكلمات نسائم البشرى في أرباظ البلاد، وايقظ من سناها السنابل في صلاة الفجر، وأناجي الغدير بما ترقرق من كوثره على فم الشعراء، وسأجعل منه واحة غنّاء يُستنشق منها رياحين الولاء..
كم نحتاج في يومنا هذا لمن يبلّغ عن المهدوية، فنحن ابتعدنا كثيرا عن نهج علي، وبتنا نعيش ضمن جولات الباطل، والناس جميعا تعاني من ويلات الحروب والظلم والفقر، جراء ابتعادنا عن الغدير، ولكن للحق دولة، يحيا فيها العدل الالهي، يقيمها أمل المستضعفين والذي ينتظر أعوانا قد صافحتهم الملائكة في هذا اليوم وقد بايعوا عليا واعانوه مااستطاعوا بورع واجتهاد وعفة وسداد، فاستحقوا ان يجددوا العهد لجده وهم تحت لوائه.. (واخرين منهم لما يلحقوا بهم)..
اضافةتعليق
التعليقات