في عالم رقمي متسارع، نعيش في زمن حيث "إن لم تُوَثّق، فهي لم تحدث". ربما تظن أن هذه الجملة مبالغ فيها، لكنها الحقيقة المرة التي أصبحت تُسيّر حياتنا. التصوير اليوم لم يعد مجرد هواية أو وسيلة لتخليد الذكريات، بل تحول إلى طقوس يومية تفصلنا عن عيش اللحظة الحقيقية.
لكن ماذا لو ألقينا نظرة أعمق؟ ماذا لو توقفنا للحظة لنسأل: هل أصبحت عدسة الكاميرا أقوى من عدسة قلوبنا؟ هل أصبحنا نعيش اللحظة لنلتقطها، بدلًا من أن نعيشها؟.
تخيل أنك في غابة خضراء، الطيور تغني، والشمس تلقي خيوطها الذهبية على الأشجار. منظر يخطف الأنفاس، أليس كذلك؟ لكن بدلاً من أن تُغمض عينيك وتدع الطبيعة تغمرك، تمسك بهاتفك، تبحث عن الزاوية المثالية، وتضغط على زر التصوير. ثم، تمضي دقائق في التعديل وإضافة الفلاتر لتبدو الصورة أكثر "حقيقية".
ولكن مهلاً، أين ذهبت اللحظة؟ اللحظة التي كان يمكن أن تعيشها بقلبك بدلًا من عدستك؟
عدسة القلب ترى ما لا تراه الكاميرا. ترى البسمة الصادقة، والنظرة الحانية، ولحظات الدهشة الأولى. لا تحتاج إلى إضاءة مثالية أو إطار جميل. يكفي أن تعيش اللحظة بكل تفاصيلها لتظل محفورة في ذاكرتك.
عندما تنظر بعين القلب، فإنك لا تكتفي برؤية المشهد، بل تشعر به ضحكات الأصدقاء في جلسة دافئة، أول خطوة لطفلك، أو حتى صوت المطر وأنت تقف على النافذة. هذه اللحظات لا تحتاج إلى توثيق، لأنها محفورة في أعماقك.
الكاميرا هي وسيلة عظيمة لتوثيق الذكريات، لكنها ليست الحياة ذاتها، إنها أداة تلتقط اللحظة لكنها لا تستطيع أن تمنحك الشعور الذي يحمله المشهد. أحيانًا، تسلبنا الكاميرا البساطة بدلاً من أن تستمتع بالمشهد، تجد نفسك مشغولاً بالتقاطه ومشاركته ثم تبدأ دوامة التعليقات والإعجابات، وتتحول اللحظة التي كان يفترض أن تكون خالصة لك إلى مادة للعرض.
قد تكون الكاميرا وسيلة رائعة لتخليد الذكريات، لكنها لا يجب أن تكون بديلاً عن عدسة القلب. اللحظات الأجمل هي تلك التي تعيشها بكل حواسك، دون الحاجة إلى فلتر أو زاوية مثالية. فعندما تكون في لحظة مميزة، جرّب أن تعيشها أولاً قبل أن تفكر في تصويرها. أنت لا تحتاج إلى عشرات الصور لتوثيق نفس الحدث. التقط واحدة، ثم عد لتعيش اللحظة.
في النهاية، الحياة ليست معرض صور، بل قصة تُكتب بتفاصيلها، تُحسّ وتُعاش بصدق. فاختر أن تكون حاضرًا، لأن أجمل الصور هي التي تُلتقط بعين القلب فالذكريات التي تعيشها بقلبك هي التي تبقى. ربما تنسى الصور المحفوظة على هاتفك، لكنك لن تنسى شعورك حينما ضحك طفلك لأول مرة، أو تلك اللحظة التي ضممت فيها صديقًا بعد غياب طويل.
عدسة القلب هي ما يجعلنا بشرًا، فهي ترى الجمال في التفاصيل الصغيرة، وتحفظ لنا المشاعر قبل المشاهد. اختر أن ترى العالم بعين قلبك أولاً، ودع الكاميرا تأتي لاحقًا إذا احتجتها.
لأن الحياة، في جوهرها، ليست معرض صور.. بل مشاعر تُعاش بصدق.
اضافةتعليق
التعليقات