- لماذا .. من بين رجال الدنيا كلهم اخترتِ هذا الرجل ليكون زوجِك ؟!
هكذا طرحتْ ابنتي ذات الخمسة عشر ربيعا سؤالها، بصورة مباشرة ومباغتة ولا أقول وقحة؛ لأني أحسنتُ تربيتها؛ ولذا أفترضتُ حسن الظن في هدفها من السؤال خصوصا أن نظرتَها وشتْ بشىء من الألم، ولمحتُ بريقَ دمعةٍ بين جفنيها، وأحسستُ بغصّةٍ في صدرها، وتهدجٍ بصوتها ! لذا أجبتها بكل هدوء لأعرف ما وراء هذا السؤال الغريب !
- ولكن هذا الرجل أبوك، الذي يحبك كثيراً ويفضلك على أخوتك، ويبالغ بتدليلك؛ فما وجه اعتراضك؟!
هنا انفجرت بالبكاء بحرقة لم يسبق أن رأيتها، حتى عندما اختفت قطتها قبل سنوات، وانبرت تتكلم بعصبية ممزوجة بالخجل والألم:
- وأنا أحبه، وهو أغلى عندي من روحي ولكن الناس لا يهتمون بشؤونهم الخاصة! يتركوننا نعيش بسلام !
- وما دخل الناس بك وبأبيك؟
هنا ازدادت حرقتها، واندفعت تشكو ألمها:
- لأنه أسمر اللون، وشعره أجعد وأنا ورثت هذا منه، لم أرث منك بشرتك البيضاء، وعينيك الخضراوين، وشعرك الأشقر، الناس يرونني قبيحة، ويقارنون بيني وبينك، حتى صرتُ أتجنبُ الخروج معك، كرهتُ هذه المقارنة وكرهتُ نفسي؛ أنا لم أختر شكلي فلماذا هذا التنمّر على أمر خارج عن إرادتي واختياري؟ .
تنفستُ عميقاً، وإن كنت لم أتفاجأ؛ فلطالما سمعتُ هذه الملاحظات مرارا منذ ولدتها بملامح تشبه أبيها، فكثيرا ما قيل لي: للأسف ابنتك لا تشبهك، ليست شقراء مثلك، والملاحظة الأكثر إيلاما ووقاحة عندما يقال: من أين جئتك بهذه الطفلة السمراء، أو هل هي ابنتك بالتبني لا نصدق أنها ابنتك حقا!.
هذه الملاحظات الفظة والقاسية والخالية من الأدب لم تكن ابنتي تفطن لها وهي صغيرة، ولكنها مذ كبرت وصارت تدرك نظرات الآخرين، وتسمع ملاحظاتهم صارت تتألم، ثم أصبحت تلومني على اختياري لرجل - بنظرها- غير وسيم قد ورثت عنه ملامحه الخالية من الجمال، وقد تصل إلى مرحلة تبغضني، وتبغض أباها بعد أن صارت تكره نفسها وشكلها .
كيف لي أن أعالج هذا الأمر، كيف أقنع الناس بعدم التنمّر على الآخرين، وإيذائهم بملاحظات تكسر أرواحهم، وتخلق لهم آلاماً لا مبرر لها، تفقدهم الثقة بأنفسهم، وتسلب منهم سلامهم النفسي، وقد تحولهم إلى أشخاص عدائيين يكرهون المجتمع، ويسعون إلى معاقبته على قساوته عليهم !.
أنا لا أستطيع أن أقنع فتاة مراهقة أن الشكل الخارجي أمر ثانوي، وأن الجمال جمال الروح؛ فهي في عمر ترى فيه الفتاة جمالها وأنوثتها أمر مهم وجوهري له الأولوية، وتكون شديدة الحساسية لعيوبها الجسدية، وأي نظرة سلبية لهذا الجانب من شخصيتها سوف تدمّرها، وتزعزع ثقتها بنفسها.
ولا أستطيع ان أمنع عنها عيون الآخرين، وتعليقاتهم السمجة والفظة، ولكني أستطيع أن أغمرها بالحب والحنان، فهما بلسمان يفعلان المعجزات، ويداويان أعمق الجروح، وأشدّها إيلاما .
سأشعرها أنها بلونها الأسمر، وشعرها الأجعد أجمل في عيني وعين أبيها وكل من يحبها من ملكات الجمال، مما يعزز ثقتها بنفسها، وسأعمل على إلفات نظرها إلى مواطن الجمال فيها؛ فكل أنثى جميلة بصورة ما وعليها إلا أن تكتشف هذا الجمال، وتبرزه بشكل لافت من غير إسراف أو مبالغة قد تأتي بنتائج عكسية .
المرأة الذكية تستطيع أن تخلق لنفسها جمالا خاصا، وشخصية مميزة محبوبة، وكاريزما تخطف الأنظار، وتأخذ بمجامع القلوب وإن كانت تفتقر لبعض مواصفات الجمال التقليدية والمألوفة لدى الناس .
المرأة الذكية والناجحة تشعر بتميّزها، وترى نفسها لا تقل عن الأخريات، بل وتنافسهنّ جمالا وتألقا، وهذا ليس إحساسا عن وهم مرضيّ؛ بل شعور مبنيّ على أسس صحيحة وراسخة تجعلها تتصرف بثقة تنتقل عدواها إلى الآخرين فيرونها بدورهم جميلة أيضا .
هكذا بدأتُ بعلاج ابنتي من جروح الآخرين، وبدأتْ بدورها تستجيبُ للعلاج وتتعافى، وشرعتْ تخلقُ لنفسها شخصيتها الفريدة مستثمرة كل ما تملك من مواصفات كلطفها، وخفة دمها، وأريحيتها في التعامل مع الآخرين، وكان أبوها مثلُها الأعلى، فهو شخص ودود، وكريم، له هيبة وجاذبية تجعله ناجحا اجتماعيا يحبه الصغير والكبير .
وهنا أدركتْ إبنتي الإجابة على سؤالها القديم: لماذا من بين رجال الدنيا كلهم اخترتُ هذا الرجل ليكون زوجي ؟!
اضافةتعليق
التعليقات