إنها الثانية بعد منتصف الليل، أراقب بندول الساعة كيف يجر بنفسه من رقمٍ إلى رقم، وكأنه في ماراثون حقيقي مع الزمن، تجمد نظري على تلك الحقيبة النصف مفتوحة! وذلك (الشال) الذي يحتضن بداخله تربة الحسين (عليه السلام) وقطعة قماش خضراء مكتوب عليها بخطٍ عريض جملة: (يا زهراء).
أما تلك البدلة العسكرية فقضية كبرى!، نصفها داخل الحقيبة ونصفها الاخر مرميٌ على الأرض، وكأنها تحاول بهذه الحركة الجامدة أن تواسي حيرتي وضياعي القاتل معها.
إذا وضعتها في الحقيبة أخاف أن ترجع اليّ ملطخة بدماء أحمد!، أنا أعرف بأن كل أخضر يتبدل احمرا في ساحة الحرب!.
أخاف أن أرجعها إلى خزانة الملابس، وأغدو يوم القيامة مسوّدة الوجه أمام مولاتنا الزهراء (عليها السلام).
هنالك معركة طاحنة بين قلبي وعقلي، بين دنياي وآخرتي، إنها حيرة كبرى، إنه ضياع!.
يمر شريط الذكريات أمامي، وكأنها الحلقة الأخيرة من مسلسل عمري البائس.. مسلسل أنا الكاتبة فيها، بعدما ترك لي ولدي الخيار في أن أحدد له النهاية التي أراها مناسبة، ليمثل هو الدور حسب المشهد الذي أختاره أنا، ضائعة وحدي في هذا المشهد الحزين، لا أدرى أكتبه بقلم قلبي أم عقلي.
يريد أن يلتحق بركب المجاهدين، يدافع عن حرمة العقيدة والوطن، وأريده بجانبي أقرُّ عيني بزواجه وَذُرِّيَّتِهِ..
بعد حوار طويل دار بيني وبينه، ختم كلامه بهذه الجملة وخرج من المنزل: "اطمئني يا أمي لن أذهب دون رضاك، ولكن حاولي أن تجدي العذر المناسب الذي تبررين به قعودي في البيت لمولاتي الزهراء يوم المحشر بينما العدو يحاول أن ينتهك حرمة الدين الذي أفنى من أجله الامام الحسين أهله واصحابه، إذا وجدتِ العذر المناسب فعودي ببدلة الحرب إلى الخزانة، وإذا كنتُ في عينك "وهب"، احزمي حقيبتي بحبك ودعاءك واقرأي على هذه الدنيا الفانية السلام".
وهب... هزّ هذا الاسم ثلاثي الأحرف كياني وكأنه يذكر أمامي للمرة الأولى، كيف يا ترى كان حال أم وهب في يوم الطف؟ كيف طاوعها قلبها أن يقطعوا رأس ولدها أمام عينها؟، بينما تجمعت هذه الأسئلة في قلبي، فجأة تحولت الغرفة التي كنت جالسة فيها إلى صحراء غابرة.. نظرت إلى الأعلى فرأيت السماء فوق رأسي، أين ذهب السقف يا ترى؟، ماذا يحدث حولي؟ أين أنا؟!
حاولت أن أتفقد مكاني، نظرت يميناً، ويسارا... وقع نظري على مشهد أليم، خيام خضراء، ومجموعة من الجنود السماوييين، نساء وأطفال، وجوههم مصفرة وشفاههم ممزقة، إنهم ينادون العطش، إنهم...؟!، نعم أظنني عرفت أين أكون..
ضربت على رأسي من هول المشهد علني استفيق من هذا الذي أنا فيه، فلا قلب لي على تحمل كل هذا، أشعر بأن أحشائي تتمزق وأنا أنظر إلى خيام أهل البيت، وأسمع صوت مولاي الحسين ينادي: "ألا من ناصر ينصرني"، ضربت على وجهي وصرخت لبيك يا مولاي لبيك.. ولكن صوتي لم يخرج!، صرخت مرة أخرى، ولكن دون جدوى، بقيت أضرب على رأسي وأبكي بقوة وأنا أحاول أن ألبي نداء مولاي، إلاّ إن كل محاولاتي باءت بالفشل، وكأنه جواب واضح بأني خذلت الحسين قبل هذه المرة.
بينما كنت ألطم على رأسي وأبكي اتجهت امرأةً نحو المولى وهي تنادي على ولدها: "قم يا بني وانصر ابن بنت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم).
فبرز إلى ساحة المعركة مرتجزاً، ودخل على الأعداء ونفث تراب العقيدة على الكفر بسيفه، فلم يزل يقاتل حتى قتل منهم جماعة، ثم عاد بأدراجه إلى أمّه، وقال لها: يا أماه أرضيت؟.
فردت عليه قائلة: ما رضيت حتى تقتل بين يدي مولاك الحسين (عليه السلام).
فعاد إلى المعركة وقاتل قتال الفرسان، وما رضي أن يعود إلى أمه الاّ ملطخًا بدماء الشهادة كي تقر به عينا ويُبيِّض وجهها أمام آل بيت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
ماكنت أسمع إلاّ صليل السيوف، ونداء لبيك يا حسين، حتى وقع الفارس من جواده، فتراود على مسمعي صوت انقطاع النحر وانفصال الرأس عن الجسد، كنت أشعر بأني سأفقد الوعي من شدة المشهد وقساوته إلاّ إني أمسكت نفسي، وعلى أثر ذلك تقدم شخص من جيش معاوية حاملًا بيده رأس وهب، متشمتًا بحالها وحال ولدها، خرجت آه عميقة من صدري وكأنها مواساة لهذه الأم التي فصلوا رأس فلذة كبدها أمام عينها وجاءوا الآن كي يشمتوا بها، بينما كنت أبكي على حالها حتى تقدمت الأم وأخذت منهم رأس ولدها وتقدمت به نحو جيش العدو بخطوات قوية، سألت نفسي ألف مرة ماذا تفعل؟ هل ستطلب الجسد أيضا؟ هل ستبكي أمامهم وتفرغ غضبها عليهم، ماذا ستفعل هذه المرأة؟، بينما وصلت إلى مسافة قريبة منهم وإذا بها ترمي رأس ابنها في وجوههم، ثم عادت بخطواتها نحو خيام أهل البيت والعزة تتساقط من اعلى رأسها إلى أخمص قدمها، وكأنها تردد في سرها: "نذرت ولدي للحسين قربانًا، والنذر لا يرجع!".
بعدما رأيت هذا، ضربت على رأسي بحجارة كانت في الأرض، وودت حينها أن تنشق الأرض وتبتلعني، فيا حسرتاه على نفسي، كنت أبكي على هذه المرأة وحالها، بل أنا التي أحتاج أن يبكي أحد على مصيبتي وقلة حيلتي، وسوء عاقبتي.. استكثرت على مولاي الحسين بولدي بينما أم وهب خطت العزة والكرامة بنصرتها ونذرها ووفاءها لإمامها الحسين (عليه السلام)، وكأن بكائي ولطمي في مجالس الحسين وجملة "ولي لمن والاكم وعدو لمن عاداكم" لم تكن سوى لقلقلة لسان فارغة تخرج من فمي، رحماك يا ربي، سامحني يا مولاي عن غفلتي وتقصيري..
وبقيت أبكي بصوت عالٍ ولا يسمعني أحد، وكأني طردت من رحمة الله، أظنني قد متُّ وهذا هو برزخي كي يريني الله قبح عملي وافتعالي، ماذا سأقول لمولاتي الزهراء؟ بأي وجهٍ سألاقي العمة زينب؟ يا الله فقط لو تمنحني الفرصة كي أنصر الحسين، إلهي بشفاعة الحسين التي شملت الحر وغيرت مصيره من النار إلى الجنة، لا تجعلني من خاذلي مولاي الحسين، اللهم الرحمة، الرحمة، الرحمة..
بقيت أبكي بحرقة وكأن الدمع يخرج محملًا معه نارًا محرقة، أبكي وأحمل التراب وأذرفه على رأسي، وأنادي: يا حسين.. يا حسين.. يا حسين، ما أكملت حسيني الرابع حتى وجدت نفسي في الغرفة وولدي يسكب الماء على وجهي وينادي: "ما بكِ يا أمي، استيقظي، بالله عليك وعلى جزعك هذا ماذا حلمتِ؟".
فتحت عيني، وجدت أحمد أمامي بينما وجهي غارق بالدمع وجسدي يرتجف بالكامل، خطفت نظري إلى الساعة فوجدت عقاربها لا زالت متجمدة عند الثانية بعد منتصف الليل!، وأنا في حالتي تلك رميت بنفسي على الأرض وسجدت لله سجدة شكرٍ حسينية.
لا أدري إذا كان حلمًا أو كنت بالفعل ميتة، ولكني متأكدة بأن الحسين لا يريد أن يراني مسودة الوجه أمام أمه الزهراء، شفع لي عند الله كي أصحو من غفلتي، وأنصره في زماني هذا، رفعت رأسي من على الأرض واتجهت مباشرة إلى الحقيبة، رفعت نصف البدلة التي كانت على الأرض ووضعتها حيث يجب أن تكون، ثم أغلقت السحاب وأنا أردد في نفسي: لبيك يا حسين، لبيك يا حسين، لبيك يا حسين..
ثم حملت الحقيبة وسلمتها بيد ولدي أحمد الذي كان متعجبًا مما يحصل، قبّلت جبهته وقلت له جملتي الأخيرة التي لم يسمع غيرها: "اذهب يا ولدي وبيض وجهي أمام مولاتنا الزهراء (عليها السلام)، فإني نذرتك قربانًا للحسين، وتذكر يا ولدي، بأن النذر لا يرجع أبدًا".
اضافةتعليق
التعليقات