ظلام حالك يهتكه نور القمر الخافت، أحزان لا حصر لها و بكاء موجع ..
بدا الحاضر مؤلماً وهم يستمعون إلى نشيجي ونحيبي المتقطع المنهمر على أسماعهم فيقرح قلوب الأطفال والعلويات ويبكون معي.. أمن الجوع؟ أو العطش؟ أمن التعذيب الذي لاقيناه من ضرب وانتهاك حرمة؟ أو من المصيبة العظمى والفاجعة الكبرى التي حلّت بنا ..
هل أنا من هؤلاء الأطفال؟ بل هل أُعَد الآن طفلة؟ أم شيبتني هذه الرحلة.. فبشاشة الطفولة قد هجرتني.. واحتل قلبي وعيني أسى عميق.. ونسيت بأنني بنت ذات ثلاث سنوات ..
نعم… أنا صغيرتك.. عزيزتك.. مدللتك.. لكني لم أعد بعد الآن مدللـة كما كنتُ أبتِ ..
عمتي زينب تسعى لأن تكون دائماً بجواري، وأخي وإمامي السجاد معي..
إذاً فمالي والخوف يتغلغل بداخلي.. كم مشتاقة الى بريق عينيك الجليلتين والى شعاع نظراتك الدافئة فتغمرني دفئاً وراحة..
انتظرني يا أبي.. لم يحن وقت الأفول.. فلا خير في الحياة بعدك ..
أشعر بأن نفسي تتمزق إذ تحولت من بحر الى صحراء قاحلة أصيبت بالجفاف الشديد بفقدك ..
آهٍ آه.. فمسني ألمٌ لا عهد له من قبل أن يطرق فؤادي، فليتني كنت نسياً منسياً و لا أرى نفسي خالية منك ..
أبتاه.. لمَ جاؤوا بنا الى هذه الخربة؟ ماذا يحدث لنا؟ أفكاري مرتعشة تحوم حائرة حولي ..
ألسنا نحن بنات رسول الله؟! أتسبى بنات رسول الله في الفلواتِ..؟؟ وبنات زياد مصوناتٌ في قصورهن ..
جدران قلبي ترتجف ذُعراً كلما تذكرت أصوات سنابك خيولهم وكيف هجموا علينا وحرقوا خيامنا وكيف لذنا بالفرار كل واحدة في جهة.. لقد حل خوف رهيب في نفوسنا، لا يعلمه إلا الله ..
فقد قال أخي الإمام السجاد (عليه السلام) في حقنا: “والله ما نظرت إلى عماتي وأخواتي إلا وخنقتني العبرة، وتذكرت فرارهن يوم الطف من خيمة إلى خيمة، ومن خباء إلى خباء، ومنادي القوم ينادي أحرقوا بيوت الظالمين..”
أبتاه.. بعد استشهادك جاؤوا لي بالماء.. و ناولني الساقي قدح الماء فأخذتُ القدح وهرولت نحو الميدان.. فتساءل الرجل وقال لي: الى أين تذهبين؟ فقلت: أمضي إلى والدي لأسقيه الماء.. فأجابني اللعين: دعي عنكِ هذا واشربي الماء فقد قُتِلَ أباكِ ظمآنا..
فامتنعت عن شرب الماء.. وانتحبت لعطشك ..
إنني أرى بقعاً سوداء مخيفة تتجلى على متني.. نعم تذكرت.. إنها من الضرب المبرح من أسواط هؤلاء الرجال المخيفين التي التوت على جسمي الصغير.. أبتاه لقد آلموني كثيراً.. وعمتي مراراً وتكراراً كانت تذب نفسها عني فضربوها كثيراً هي أيضاً.. لقد كبِّلت الإنسانية لديهم!، هؤلاء قومٌ امتلأت بطونهم حراماً، فلقد أسكرتهم شهوة القتل والنهب لأجل حفنة من دراهم فانية.. هؤلاء هم أتباع يزيد .
أبتاه.. إنني أتذكر عندما قُلتَ: على الإسلام السلام، إذ بُليت الأمة براع مثل يزيد .
فلقد انقطعت بك الأسباب في إصلاح فسادهم.. نعم، فقلة قليلة صدقت ووفت ماعاهدتكم عليه ..
أبتاه سمونا بالخوارج.. وهم أحقُّ به..! وادعوا أنهم هم على دين جدي.. ونحن أحقُّ به ..!
كيف يتجرؤون.. بل وكيف ينسبونا نحن ذرية الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) إلى الخوارج ..!
يقولون أنني أشبه جدتي الزهراء فكانت هي أيضاً في غاية التعلق بأبيها رسول الله ..
أبتاه.. لقد رأيتك في عالم الرؤيا وأنت تضيء كالشمس بل وأشد إشراقاً، فتنعمت بلقائك خلال تلكَ اللحظات القصيرة، لكن عندما استيقظت من منامي سرعان ما ماجت الأحزان في أعماقي، وازداد حنيني واشتياقي إليك أضعافاً مضاعفة.. فومض طيفك في قلبي فانفطر من شدة الوجع..
فأنا لا أقوى على العيش دون ذلك الوجه المنير.. والصبر جميل، ولكن فيك ليس بجميل ..
فاشتدَّ بكائي وكلما حاولوا العلويات تهدأتي لم يتمكنوا ولمّا تساءلوا مني عن سبب بكائي قلت: أين أبي ايتوني بوالدي وقرّة عيني ..
آنذاك عرف الجميع أنّني رأيتك في المنام فضجّ الجميع بالبكاء والعويل ونشرن العلويات شعورهنّ وأخذن يلطمن على وجوههنّ ويحثن التراب على رؤوسهنّ حزناً عليك.. حتّى وصل صوت النائحة إلى أسماع يزيد الطاغية فأمر رجاله بإسكاتنا ..
إنني أرى من بعيد رجالاً يأتون نحونا وبيدهم طَسْت وعليها منديل، أ فيها طعام؟ لكني لم أقل إنني جائعة..! إنني أريد والدي الحسين ..
إنهم جلاوزةُ يزيد، عليهم لعائن الله غضب الله عليهم و رسوله ..
اقتربوا نحوي.. نظراتهم وقحة.. تفوح منهم جيفة الجاهلية الأولى.. فوضع بين يديَّ الطَّسْت وكشف الغطاء.. وقالوا: إنه رأس أبيك، فرفعته حاضنة له، مفجوعة وقلت:
أبتاه.. من الذي خضّبك بدمائك؟ أبتاه.. من الذي قطع وريدك؟ أبتاه.. من الذي أيتمني على صغر سني؟ أبتاه.. من بقي بعدك نرجوه؟ أبتاه.. من لليتيمة حتى تكبر؟
ثم وضعت فمي على فم والدي الشريف وبكيت بكاءً حارقاً.. عيناي تورمتا من شدة البكاء.. فلقد اندثرت آمالي.. وضاعت أمانيّ في رياح نينوى.. فسأندبنك صباحاً ومساءً..
وهل تشفي الدّموع جرحُ يتيمٍ خلَّفَه استشهادك يا أبتِ؟
نعم.. فلقد تجرعت كل شيء.. إلا رحيلك عني.. فحزني عليك سرمد وليلي مُسَهَّد.. وما لهم كيف يقتلون رجلاً إذ الكون أسيرة قبضته؟!
ظلت دموعي ترقرق على وجنتي المذبولتين وغفوت وقد أعياني التعب من شدة البكاء.. من شدة الشوق.. منهكة.. وفي نفسي أمل اللقاء.. أمل الوصل..
حل الظلام.. لا أحس بجوارحي بعد الآن.. إنني ظمآنة بشدة.. ظمأٌ لا يرويه إلا وجهك يا أبي ..
اقتحم النور فضاء المكان بقوة.. من أين يأتي هذا النور..؟ أرى نورٌ عظيم يحوطني.. أين أنا؟؟.. هل من أحد هنا؟؟، لا أرى سوى النور والضباب منتشر في كل مكان، أمعنت النظر وإذا بي أرى رجلاً ذو هيبة عظيمة ولكني لا أكاد أرى وجهه.. عكفت عيناي ترصده وإذا به يقترب مني ..
فبدت تتوضح صورته الرؤومة في عينيّ المثقلتين بالهموم.. المملوءتين بالدماء ..
فقد كنت أندب والدي الحسين.. وعلى حسرة فقده.. وعلى ما جرى عليه من ظلم بني أمية عليهم لعائن الله، ومن شدة البكاء جرت الدماء من عيني وبعدها لم أشعر ماحدث ورأيت نفسي هنا .
اقترب مني.. وصرت أتأمل بخشوع الى عينيه السماويتين وهو يرمقني بنظراته الحانية، فبدت السعادة تغزل خيوطها ..
وإذا بصوت يتهادى إلى سمعي قائلاً: بنيَّة إليَّ إليَّ …
اضافةتعليق
التعليقات