من السيارة الصغيرة ترجَلن تلك الفتيات، عَلت وجوههن الابتسامة والنشوة، ليصلن إلى تلك البوابة الكبيرة، حيث كانت في استقبالهن، وقد فُتحتْ على مصراعيها، وتزينت جبهتها بلوحة تعريفية، ترشد المارة إلى ذلك المكان الذي بقي خالداً على مر الزمان؛ لقد خط العمر الشبابي لوحته، ورسم في زواياها فراشات الحب والأمل.
نَزلن للتو وتركن أحاديث مختلفة عن المحاضرات، والنشاطات والاحتفالات، أما مسك الكلام كان عن إيمان حيث تأخرت قليلا قبل المجيء، وعن وقت انتظارهن لها، وعن السائق الذي قدمت الاعتذار له وقد قبِله مبتسما.
دخلن الحصة الأولى بعد انطلاق صوت الصافرة من قبل الإدارة معلناً عن بدأها، كانت إيمان من الطالبات المتفوقات، وقد اتخذت الكرسي الأمامي مقعداً لها منذ بداية السنة الدراسية، وقد اعتادت -عند الدقائق الأخيرة من الحصة- على طرح الأسئلة، وبكل سعادة كان يجيب الأستاذ عليها، وقد اتخذ مستقراً له بين باب الصف والرحلة التي تجلس عليها، ليستمع ويستمتع بجوابه لها، تاركا لبقية الطالبات أحاديثهن فيما بينهن تملأ دقائق الوقت الأخير من الحصة!.
هكذا هي ايمان ما فتئت تمارس شغفها للكتابة على طاولة الوقت، ولم تزدد إلا حبّا للكتبِ ومطالتها، فكل المتعة وجدتها تكمن هنا، لقد كانت المديرة محقة جدا إذ جعلتها مسؤولة على مكتبة المدرسة، فصارت تزهو بها بتنظيمها للكتب، وفهرستها بحيث يسهل اختيار الكتب لمن يستعيرها، ونتج عن ذلك أن ايمان قد صعدت سلم النجاح، حيث بدأت تكتب المشاهد والنصوص المسرحية التي تعالج مشاكل وهموم الطلبة، بل وارتقت منصة التمثيل، وقامت بأداء أدوار مهمة على مسرح المدرسة، مستمدةً يد العون من أستاذها الذي مازال ذات المكان -عند باب الصف- مقره الذي يأنس به عند مناقشته لها..
وما زال يحترم تلك الدقائق القليلة التي تجمعه والحديث معها، رغم تقدمها إلى مراحل دراسية جديدة متزينة بثوب النجاح، غير متناسية تلك العكازة التي اتكأت عليها وأرشدتها إلى واضح الطريق في الكتابة والنقد والتأليف.
كم كانت جميلة تلك الأيام الدراسية، حيث الشرح المباشر باستخدام وسائل الإيضاح والمختبرات التي تجمعهم معا، وحديث الأساتذة الذي يشد إليه الجميع بكل لهفة.
نعم هي جزء من حياتنا وسعادتنا، فالاعتياد على جو الحلقات الدراسية، وصحبة طلبة العلم، والوقت الذي يُقضى معهم في ساحة المدرسة، وتلك الجلسات الندية التي تنثر عطر المحبة، وتنبيهاتهم: اقرأ، اكتب، اشرح... تعلن عن التقويم اليومي والسنوي المهم من حياتنا.
(ملعونة كورونا) (كوفيد-19) تجاوزت على حقوقنا وحرمتنا منها، بل نالت من أحبتنا وبقينا نأن لفراقهم وتقتلنا ذكرياتهم.
إيمان -ذات يوم- حينما اضطر الأستاذ إلى إنهاء الحصة وغلق الباب قهراً، حيث صفير الرياح وظلمة الجو، وانقطاع التيار الكهربائي، مما أدى إلى إنهاء ما تبقى من الدوام للظرف الراهن من قبل الإدارة، ورجوع الكل إلى بيوتهم؛ شعرت ايمان بإحساس غريب، وتيهٍ من أمرها وكأنها فقدت شيئا ثمينا، إلا أنها لا تعرف ماهو؟! لقد ملَّ الكتاب وهو بين يديها؛ تقلبه دون رحمة من الشمال إلى اليمين دون استقرار، إلى أن ألقته جانبا، وراحت تستذكر يومها الذي خلا من حديث الباب؛ جلست على الكرسي مستمتعة بشريط بذكرياتها، حتى قطعته -على حين غرة- نغمة رنين هاتفها المحمول، لتتفاجأ بالمتصل، إنه أستاذها، وعلى هامش الدهشة راح يسأل عنها، فهو الآخر يفتقدها؛ لقد انتشلها من بحر التفكير وأمواجه، وبكلماته البسيطة أخذ بروحها إلى شاطئ الأمان والهدوء، معلناً لها بأنه أنهى قراءة الكتاب الذي استعاره منها قبل فترة، وهكذا أعلنا الحب بينهما دون أن يفصحا.
وفي يوم بهيج -أثناء توزيع النتائج الدراسية- استلمت إيمان شهادة النجاح وبتفوق، حيث كان معدلها يؤهلها لدخول كلية الطب، أقيم احتفال بها وببعض زميلاتها، وزعت خلاله الإدارة الهدايا على المتفوقات، وبالإضافة إلى هداياها، تسلمت ايمان مجموعة من الكتب بعناوين مختلفة، وامتلأت النفوس بالراحة وانتهت مرحلة من العمر الدراسي كانت جميلة بأحداثها.
وبعد فترة أعلن الأستاذ حيدر خطوبته من إيمان التي تربت على يديه، ومنحها الثقة بالنفس وعلمها بأن (خير جليس في الزمان كتاب)، وأثبتت له هي بأن خير صديقة صدوقة، ورفيقة مؤنسة هي إيمان.
مرت أيام على خطوبتها، والسعادة لا حدود ولا وصف لها، إلا أنها لاحظت أن السؤال بدأ يقل من قبل حيدر (زوج المستقبل)، وبدأ الأمر يقلق إيمان جدا، والتساؤلات تحيطها من كل جانب، لا أحد يجيب عند اتصالها ماخلا مرة واحدة أعتذر من خلالها المواصلة بالكلام معها.
وللأسف بدأت الحالة تزداد سوءًا وجاء الاتفاق بين العائلتين بعدم إخبارها بإصابته بمرض (كورونا)، الذي استفحل عليه دون علمه، لأنه كان في فسحة الأمل والحب مع فتاته، وأهمل نفسه في بداية الأمر إلى أن أصبح غير قادر على المقاومة، رغم الاهتمام من قبل الأطباء المشرفين، حتى اهتمامها وعنايتها به لم يجدِ نفعًا، وهكذا تنتهي قصة الرحلة والباب.
اضافةتعليق
التعليقات