إن الزواج في نظر الإسلام شريعة وسنة، وربما وصل إلى الفريضة في بعض الأحيان، وقد شرع الزواج من أجل العفة وحفظ النسل واستقرار المجتمع، فإعفاف النفس وصونها من أفضل ما تقرب به المتقربون إلى الله تعالى. كما لا يخفى ما في ترك الزواج من الآثار النفسية السيئة على كل من الرجل والمرأة.
سكن وراحة.. رحمة ومودة
ويهيئ الزواج لكل من الرجال والنساء متعة من أعظم متع الدنيا، وهذه المتعة تنقسم إلى قسمين: سكن وراحة نفسية، وإمتاع ولذة جسدية، قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(الروم/21).
والسكن إلى المرأة يشمل سكن النفس وسكن الجسم، كما أن المودة والرحمة من أجمل المشاعر. فالمتع الجسدية والنفسية تعمل عملها في نفس الإنسان وفكره وقواه النفسية والبدنية فيشعر بالرضا والسعادة والراحة النفسية والجسدية، حيث تتصرف طاقته وغريزته بأنظف الطرق وأطهرها، أما تصريف الشهوة خلال قناة غير شرعية فتكون متعته محدودة توجد بوجود اللذائذ الحسية، وتنتهي بانتهائها، ويأتي بعد ذلك شعور بالاحتقار والازدراء والامتهان، وتلك المشاعر غالبـًا ما تولد العقد النفسية والانحلال الخلقي وضعف الوازع وهوان النفس، أما مشاعر الأزواج فإنها تورث الحب والرحمة وسمو النفس وحياة الضمير والقلب، وإحساس الزوج بالمسؤولية تجاه الأسرة ينمي قدرته على القيام بالواجب، ويجعل له هدفـًا ساميـًا، وهو إسعاد أسرته وحمايتها، والسعي من أجل متطلباتها، فيبذل جهده ويزيد من إنتاجه، مما يعود على المجتمع بالنفع.
ومن حكم الزواج وفوائده، بلوغ الكمال الإنساني، فالرجل لا يبلغ كماله الإنساني إلا في ظل الزواج الشرعي الذي تتوزع فيه الحقوق والواجبات توزيعـًا ربانيـًا قائمـًا على العدل والإحسان والرحمة لا توزيعـًا عشوائيـًا قائمـًا على الأثرة وحب الذات.
ناقوس الخطر يدق:
إنها آهات وزفرات انطلقت من فتيات في سن الشباب يحسبن أن قطار الزواج قد فات، آهات تشعر بها العديد من الفتيات في عالمنا العربي والإسلامي ولا يستطعن أن يبحن بتلك المشاعر لأحد، إما لخوف أو لشعور شديد بالخجل والعيب.
وبالرغم مما عددناه من فوائد دينية واجتماعية ونفسية للزواج إلا أن مجتمعنا اليوم يشهد عزوفـًا ملحوظـًا عن الزواج مما أدى إلى تفشي ظاهرة العنوسة التي أصبحت تهدد استقرار المجتمع، ولكن هناك عدة عوامل أدت إلى نشوء العنوسة، يأتي في مقدمتها الجانب الاقتصادي، فبتزايد أعداد السكان في جميع البلدان مع تراجع فرص الحصول على عمل مناسب وانتشار البطالة، أصبح الشاب عاجزًا عن توفير متطلبات الزواج، إضافة إلى المبالغة في المهور وتكاليف الزواج.
فالوعي الاجتماعي غير السليم يجعل للزواج احتياجات مادية مرهقة تدفع الشاب إلى الفرار وتكون النتيجة ضررًا يلحق بالطرفين؛ فالشعور بالقناعة أحيانـًا يكون معدومـًا لدى الفتيات برغم تقدم أعمارهنَّ، فالزواج لا يتم عادة إلا بمصاريف باهظة بدءًا من حفل الزواج إلى الأثاث الفاخر الذي يكون مصدرًا لتباهي الزوجات بجودته وماركته المعروفة. كل هذا يجعل تكاليف الزواج تفوق ما يمكن أن يكسبه الشاب في عشر سنوات، وبالتالي فإن الهروب من الزواج أصبح هو الحل!
الجدير بالذكر أنه انتشرت أيضـًا في الآونة الأخيرة دعوات تندد بالزواج المبكر وأضراره النفسية والاجتماعية، وعقدت الندوات والمؤتمرات الدولية، وسنت التشريعات من خلال منظمات حقوق الإنسان، وقد غالى بعضها إلى حد تجريم الزواج المبكر، وقد لاقت تلك الدعوات قبولاً في مجتمعنا.
أيضـًا وسائل الإعلام وعلى رأسها التليفزيون والسينما أثرت تأثيرًا عميقـًا في نظرة الشباب إلى الزواج، حيث كثيرًا ما تصوره على أنه قيد يعوق انطلاق الشباب وتقدمهم، فأصبح القادرون على توفير نفقات الزواج في فترة قصيرة يصرفون اهتمامهم إلى اقتناء السيارة الفاخرة، أو تغيير الهاتف النقال أو السفر والسياحة والتنزه، وأصبح الشاب يعتبر الزواج عائقـًا عن تحقيق هذه الأمور، فيدفع عن ذهنه أي تفكير في الارتباط.
كذلك الفتيات تصور لهن وسائل الإعلام أحيانـًا الزواج على أنه تبعية وقتل لقدراتهنَّ وإبداعاتهنَّ وأنهنَّ لن يستطعن أن ينجزن شيئـًا من طموحاتهنَّ في ظل مؤسسة الزواج، فتتمنع الفتاة حتى تلحق بركب العنوسة.
وكذلك تفضيل الفتاة لوثيقة الدراسة على وثيقة الزواج جعلها تنصرف إلى استكمال الدراسة والحصول على الماجستير والدكتوراه وترفض الارتباط إلا بعد الحصول على مركز علمي معين أو منصب يُناسب مؤهلاتها، مما يجعل سنوات عمرها تضيع، وما أن تفيق حتى تجد نفسها وقد أصبحت عانسـًا.
تأثير العنوسة على المجتمع
لا يخفى على أحد ما تؤدي إليه العنوسة من أخطار جسيمة تحيط بالمجتمع، مما يستدعي بالمقابل تضافر الجهود والتعاون بين الأطراف لتقليص نسبة العنوسة المرتفعة.
فأولاً تكون المبادرة على مستوى الأفراد بحيث تكون لديهم قناعة بأهمية التيسير في الزواج وعدم التمسك بالعادات والتقاليد، فالآباء والأمهات في الوقت الذي يشكون فيه من تقدم أعمار بناتهن، عندما يأتيهم خاطب يفرضون عليه شروطـًا تكاد تكون تعجيزية بالنسبة له، مما يدفعه إلى الفرار، ولكن إذا تفهمت الأسر الوضع الحقيقي للشباب وغلاء المعيشة وصعوبة الحصول على سكن فسيسود نوع من التعاون بين الطرفين ويستطيع الشاب تأسيس أسرة.
وقد أدركت الدول والمؤسسات مدى خطورة هذه الظاهرة، وبدأت في إيجاد الحلول لتقليص العنوسة.
فالعوانس في الغالب يسيطر عليهنَّ شعور بالتمزق والطيش وضعف الوازع والرغبة في الهدم؛ لأنهنَّ حرمن من نعمة الزواج والأولاد، ولذلك جاء الإسلام بالقضاء على هذه الظاهرة الخطيرة فأمر بتزويج العوانس والأرامل، حيث قال الله تعالى: (وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)(النور/32). والأيم هي التي مات عنها زوجها، والأمر هنا للمسلمين عامة وأولي الأمر خاصة، فحرمان المرأة من نعمة الزوج ربما يخلق منها امرأة ناقصة عقليـًا وخُلقيـًا وفكريـًا، ويكون هذا بظلم من المجتمع وهو الذي سيجني ثماره.
ومن أهم سمات الشخصية للفتاة العانس:
أولًا: الميول العدوانية الكامنة نحو النساء المتزوجات:
وقد يحدث هذا في الحالات المتأخرة من العنوسة مع وجود العديد من النساء المتزوجات في محيط علاقات العانس من أخوات أو بنات عمومة أو أقارب أو صديقات، ويزيد الأمر سوءًا إن صاحب ذلك ابتعاد أو نفور من المتزوجات ناحية الفتاة العانس خوفًا منها من أن تؤثر على أزواجهن.
ثانيًا: الوقوع في (عقدة إلكترا) Electra Complex:
وهي التعلق والارتباط بالأب بطريقة مرضية. ويكون هذا هروبًا من الواقع الذي تعيشه الفتاة العانس، وسعيها الدائم لأن تشعر أن هناك رجلًا يحبها ويعجب بها وتستطيع التعامل معه، وتعتبر العانس أن هذا الأمر تعويضًا لها عن الزواج، وقد تبالغ في تضخيم هذا الأمر وتسعى لنشر مفاهيم في الأوساط المحيطة بها أن والدها يغنيها عن أي شيء، وأنها هي من ترفض الزواج حبًا في والدها ورغبة في البقاء معه.
ثالثًا: الميل نحو الانطواء والانعزالية:
ويحدث هذا في أغلب حالات العنوسة خوفًا من نظرة المجتمع السلبية إلى العانس، والثقافة الخاطئة المنتشرة بين الناس حول العنوسة والفتيات التي تأخر بهن قطار الزواج، فتنطوي الفتاة على نفسها وتقل صديقاتها تدريجيًّا.
رابعًا: التمرد على الأسرة والمجتمع بوجه عام:
لشعورها أن لأسرتها دور في مشكلتها سواء من الأب الذي لم يسعَ لتزويجها أو عارض زواجها ورفض ارتباطها بمن تقدم إليها من الشباب، لأسباب متعلقة بالمهر أو الانتماء القبلي وخلافه كما يحدث في العديد من الدول العربية، كما تلقي باللوم على المجتمع الذي يضع أحيانًا قيودًا وشروطًا على الزواج ما أنزل الله بها من سلطان تكون سببًا في تأخير زواج الفتيات.
خامسًا: الشعور بالاغتراب النفسي والعيش بمنأى عن الواقع المعاش:
تلجأ الفتاة التي تأخر زواجها إلى خلق عالمها الافتراضي والعيش فيه هربًا من الواقع المرير، وتصير تخيلاتها عن فتى الأحلام الذي سيأتي على حصان أبيض لينتشلها من هذا الواقع، وتحلم كثيرًا بالزواج، وتعيش في أحيان كثيرة مع القصص الرومانسية والأفلام الغرامية لتجد عوضًا عن الجفاف العاطفي الذي تعيشه.
سادسًا: النزعة التشاؤمية من الحياة والشعور بالإحباط المستمر:
وتزداد هذه النزعة مع تقدم العمر وتأخر الزواج فتصاب الفتاة بالإحباط، ويتولد لديها شعور أنها لن تفرح هذه الفرحة أبدًا، وقد ينتهي بها العمر وحيدة بين والديها وأقاربها، ولن تشعر أبدًا بعاطفة الأمومة وتقع في دوامة مستمرة من الإحباطات.
طرق القضاء على العنوسة
بعد أن تحدثنا عن العنوسة وأهم أسبابها نحن في حاجة الآن إلى ذكر ما هو أهم من ذلك، وهو الجانب المُتعلق بالطرق التي يمكن من خلالها القضاء على العنوسة أو على الأقل تقليل نسبتها، والحقيقة أن المجتمع الواعي يعرف جيدًا أن تلك الطرق كثيرة، لكن يصعب تحقيق بعضها بسبب الأعراف والجهل، عمومًا، على رأس تلك الطرق تخفيض المهور أو ربما وصول الأمر إلى حد إلغائها.
تخفيض المهور أو إلغائها
إذا كان لا يُمكننا إلغاء المهور عند الزوج من أجل القضاء على العنوسة فبالتأكيد يُمكننا التقليل منها قدر الإمكان، وقد ذكرنا من قبل أن تلك المهور في الأساس هي السبب الرئيسي للمشكلة التي نتحدث عنها، والحقيقة أن الأهل إذا نظروا للأمر جيدًا فسيجدون أن تلك المهور لن تغني في شيء في حالة إذا ما كان المتقدم للخطبة سوف يُعذب ابنتهم فيما بعد أو يُذيقها الأمرين، الأهم هو التوفيق والستر في العلاقة.
عدم المغالاة في الطلبات
لا نقصد هنا بالطلبات تلك التي تتعلق بالأموال والمهر والأثاث، وإنما نعني بالطلبات التي يُمكن أن نُسميها مواصفات، فتلك الطلبات هي التي تقصم ظهر الزواج، ونقول إنها تأتي من الطرفين وليس من طرف واحد، مثال ذلك طلب الرجل بأن تكون الفتاة بالغة الجمال، هذا حقه بكل تأكيد، لكن، ماذا إذا لم تكن هناك فتاة متوفرة بهذه المواصفات!
فتح المجال أمام خطبة الرجال
هناك من يقول إن القضاء على مشكلة العنوسة سوف يتم عندما نفتح المجال أمام الفتيات من أجل القيام بالخطبة، وقد فعلت السيدة خديجة ذلك الأمر بالفعل عندما خطبت النبي عليه السلام، لكن طبعًا يجب أن يمر الأمر بعدة ضوابط تحكمه كيلا يكون خارجًا عن مساحة الحياء التي يجب أن تتمتع بها الفتاة.
اضافةتعليق
التعليقات