النجم الذي كان يشع لسنوات في سماء الشعر والابداع والأدب بقي نجماً ولكن في سماء أخرى، ليلمع فيها مع المئات من النجوم الآتيات من سماءات مختلفة..
لعل القاسم المشترك بين السمائين.. هو الوطن ومقدساته.. ذاك الذي طالما تغنّى الشاعر بحبه، والغيرة عليه هي التي دفعته للعروج نحوها وبات يسبح في سماء الشهادة.. وذلك بعد أن ذاد عن حما أرضه الغالية.. فخطّ لنفسه اسماً مع الشعراء وبعد ذلك مع المجاهدين والشهداء..
أشاحت أم علي نظرها الحزين نحو النافذة في غرفة ابنها وفي يديها رسالة منه، أوجست خيفة من كلماته التي وكأنها تخبرها بأنه يعيش أيامه الأخيرة.. وكان بعض مما جاء فيها:
"نفذت الرصاصة..
سكتت أنفاسي وعلت أصواتكم..
في صحراء المطر وجعي أشد من الرحيل"..
مسحت دموعها وحدّثت نفسها:
لاضير.. هو ديدن الشعراء الذين غالبا مايذكرون الموت والفراق في قصائدهم..
وهي دائما ما كانت تعنفّه لذكره الحزن والخيبات والقبر في أشعاره..
وكأن نداء آخر يأتيها: لكن الحياة تحبه، وكنا سنفرح به قريبا لولا العدو الغاشم الذي داهم أرضنا على حين غفلة، وأبى علي إلا أن يترك الدنيا ومافيها ويلبي دعوة الجهاد الكفائي ويلتحق بصفوف المتطوعين من جميع الفئات، وغادر مع أصحابه ووضع روحه على كفيه قربانا لحرية الوطن..
طمأنت نفسها قائلة: هي خواطر لامعنى لها، فعلي سيعود قريبا الينا وستحتضنه أوراقه وأشعاره التي تركها ومضى.. هو عاشق لعائلته وأصدقاء طفولته.. وجدران القلب يردد صدا: هو عاشق لوطنه ايضا فهو مستعد أن يلقى حتفه في سبيله..
طوت الورقة بلطف، وأخفت الرسالة في درج قلبها قبل درج الدولاب وتركت الغرفة التي تعبق برائحته وتملأها صوره وملازمه التي تنتظره.. وتوجهت الى المدرسة، أعطت الدرس للطلاب الذين كانوا يرنون اليها بحزن، صوت وضحكات ومكان علي لايبارح ذاكرتها حيث كان معها في هذه المدرسة، أخذت روحها الخائفة ترفرف بعيدا عن الصف حيث يقاتل علي البطل في قضاء آمرلي..
أعادها جرس الفرصة الى واقعها، لملمت الأوراق وتناولت القلم لتهمّ بالمغادرة، رمقتها بنظرة أسى، وكأن القدر وضعها بين القراطيس دائما لتذكرها بإبنها الذي كان يهواها..
جلست ترتشف الشاي مع زميلتها وأخذتا تتحادثان عن أخبار المعارك في جرف الصخر..
غصّت وهي تشرب الشاي.. تذكرت أبيات من شعر ولدها، "وأغصّ بريحتك ماقمت أغص بالزاد.. المفارك، النسمة العابرة تغرقه"..
_كان علي يحب الشاي كثيراً..
أردفت: _يحب الشاي والشعر الشعبي والشجن والشجاعة وشرف الوطن وشمس النصر.. وكانت الشهرة تحبه وشباك غرفته التي أخذت العصافير والحمائم تعشعش حولها منذ أن غادر عنا..
وكلمة شهادة تتقافز الى مخيلتها برعب، لتبعدها سريعا عن رأسها..
_حدثيني عن علي قليلا يا أم حسام..
جرّت حسرة طويلة وتنهدت وهي تجيبها:
_علاوي كما نناديه في المنزل، ذو ال 26 ربيعاً، ولد في يومٍ من أيام يناير الباردة..
طيب وخلوق وذو انسانية عالية.. أجمل مافي حياة بطلي هو انه رافقني في البيت والمدرسة..
في سن ال 12 بدأ يقرض الشعر، قبل أن يلتحق بركب المقاتلين كان طالبا في كلية الاعلام، وقد دفع قسط الجامعة قبل أسبوع فقط من مغادرته وكان يقول إنه يريد أن يصفّي حساباته قبل أن.. وأمسكت عند الكلمة الأخيرة..
يده التي طالما كانت تمسك بالقلم هي الآن على الزناد ومع البندقية وهو مراسل حربي في سوح الوغى..
_أسمعيني قصيدته الأخيرة؟
فزعت من ذلك السؤال ورددت مع نفسها: قصيدته الاخيرة؟ متى سيكتبها، واين؟ ولمن ستكون؟
تداركت زميلتها الموقف وحاولت أن تواسيها ببعض الكلمات:
_ ليس مهماً، صدق الشاعر حين قال: إن آية السيف تمحو آية القلم..
كانت أزقة المدينة تستقبل أيام عاشوراء الحزينة عندما فزعت من نومها مذعورة من كابوس قضّ مضجعها، كان العرق يتصبب من جبينها، كلمات ولدها هي بمثابة الماء الزلال حين تشتاق الروح وتظمأ الى لقياه.. أخذت تردد أبيات قد قالها يوماً:
"ال ما يندل خيالي ابروحي ما اخليه.. ومايرهم عليه لو نفس جيته..
ال تعداني بحلم يلقاني عابر ليل.. الفجر قبل الشمس بعيوني وشلته"..
فؤاد الأم لايخطئ.. كان علي قد جُرح في سوح الجهاد ونُقل الى مستشفى الحلة..
كان قلبها وقلب الوطن ينشد أشعاره وهي تتوجه إلى لقائها الأخير، بقي 14 يوما راقدا في غيبوبة، وصبح الخميس في 13 من شهر محرم، وفي ذكرى دفن أجساد الطف، كُتب لعلي أيضا أن يوارى جسده التراب في ذلك اليوم، ها هم أحبائه يخاطبون الوطن بلسان شاعرهم: "ضمينه النحبهم لو نفس لو شوف.. بس انت التحبهم ضامهم بقبور"..
أطفأ علي عينيه بعد أن نضم آخر أشعاره وأجملها وكانت قصيدته الأخيرة..
كتبها بالدم مثخناً بجراحه.. من أجل أن تندمل جراح الوطن.. وشُيّع في مدينته ومن ثم إلى النجف حيث أمير الحب لتسكن أنفاسه بجوار المولى علي وهو الذي كان يقول عن حبه له: "مرتين أجر النفس بس مايكفيني"..
حملته سحابة بيضاء كنقاء أوراقه وفجر النصر البازغ ليرقد بسلام بعد أن جلب السلام إلى وطنه والثمن حياته..
وجرف الصخر غيّرت اسمها.. فالشاعر يأبى إلا أن يلعب بالكلمات لتتحول إلى: جرف النصر..
أما قصيدته ماقبل الأخيرة فكانت:
"يمه استشهدت حتى الأمان يعود
صيحي ابني البطل ميخاف سواها
وصيتي على الجنازة رايد تهوسين
وهاي الرادها وهاي التمناها". لشهيدها الشاعر علي رشم..
اضافةتعليق
التعليقات