إِن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتمت بقيت وحدها.. وإذا ماتت أخرجت حَبَّاً كثيراً..
كما يحفر النهر مجراه، حُفرت تلك الترتيلة على صفحة ذاكرته، لم تزل تلك الكلمات ل السيد المسيح تحضره كلما خلا مع صديقه اليسوعي المرابط معه في خندق الدفاع عن الوطن..
بكثير من الحُب زرع تلك الحروف في قلب صديقه المضطرب ليُسكِّن روعه ويهدِّئ وجعه، وقد أكبر المسيحي في صديقه المسلم حفظ كلمات نبيه الواردة في انجيلهم..
تحت وقع أصوات الرصاص والقذائف شقّا حديثهما الذي دار عن أهم المفردات التي يستمد المحارب قوته منها في الحرب ضد الارهاب والتي يخوضها المقاتلين المنتمين الى مشارب مختلفة، وعن زاد المحارب الذي يعينه على مواجهة العدو وقناعاته المنبثقة من دينه ومذهبه..
بدأ المسيحي كلامه عن مبادئه والفخر يملأ جوانب نفسه، قبض بيديه على قلادة الصليب في عنقه واسترسل بكلامه:
_مات عيسى على الصليب بعد أن تَعذّب، وكان حبة الحنطة التي دُفنت وأعطت حَبا كثيرا للبشرية وتلك الحبوب نِعم لاتُحصى تتمثل بأفكاره وقيمه، وقدمها لنا عن طريق تضحياته وآلامه، واليسوع أراد من اتباعه ان يكونوا على أثره وأن يقتلوا ذاتهم ويَقبلوا على الموت ويضحون بأنفسهم ليعيش غيرهم..
ربت المسلم على كتفه بلطف وتمتم: طوبى لهذا الزرع الذي أينعت ثماره في ساحات الوغى.. واستطرد مازحا:
إلا اننا نحن المسلمون نؤمن بأن عيسى رُفع الى السماء ولم يُصلب، وهو نبي من انبياء العزم وليس ابنا للاله وأمور اخرى!.
غرق المكان في الصمت، ليمزقّه صوت حاد بعيد..
ملأ المسلم صدره من عبير الاعشاب المتطيبة بنداوة الليل.. ومن ثم تقلّص وجهه من الألم..
بدا حزينا تحت ضوء القمر وبدأت أنفاسه تضيق رغم الهواء العذب، تناول مسبحة من جيبه وقبض عليها بقوة..
كان الرصاص يلعلع بشدة ويئز فوق رأسيهما.. شعر المسيحي بقلب صديقه الذي أخذ يخفق بشدة.. حاول أن يُمسك بيده.. طمأنه المسلم على حاله وتناول كفه بتؤدة وقال له:
_لاتقلق.. هناك من يربط على قلبي.. وضع يده على صدره وردد بصوت واجف: ياحبيبي ياحسين..
لقد وهب الله لنا حبة حنطة عظيمة تحولت الى (شقائق النعمان) فاخضرّت أرواحنا، بفضل تلك الزهور الحمراء الجميلة التي ترمز للحياة الابدية والخلود وللشهيد المغسّل بدمائه..
أومأ برأسه الى مسبحته الترابية: تلك الزهور نمت من هذه التربة المضرجة بدماء الاطهار..
نعم، جعل الله لنا قبلة يتوجه اليها الاحرار والثوار والمدافعين عن قيم السماء، هو ذاك الذي ذكره احد اتباعكم: لو كان الحسين منا لنشرنا له في كل أرض راية، ولأقمنا له في كل أرض منبر، ولدعونا الناس الى المسيحية بإسم الحسين..
هو ذاك الذي نطرق باب السماء بإسمه.. فقد ضحى بمهجته في سبيل الاسلام.. ونحن نقاتل ودخل الى الميادين بقلوب كزبر الحديد لأن محور عزيمتنا من ملحمته الخالدة..
ابحث عن عاشوراء في داخلك.. سيجدهابلا شك كل من يبحث عنها..
عاشوراء هي بوصلة كل مقاتل.. هي ميزاب نرفل تحته فتملأنا الشجاعة والتضحية والايثار..
عاشوراء هي وقودنا لعربة الجهاد.. ووجه كربلاء وابطالها يطل علينا في كل معركة نخوضها..
حدّثه قليلا عن فاجعة الطف حتى ضعف صوته وانبجست الدموع من عينيه وشاركه صديقه بهذا البكاء المقدس..
رنا اليه بحزن: سيكفل دموعك سيدي العباس.. دموع عاشوراء تغسل الروح من الخطايا والهموم وتزيدنا قوة..
سأله المسيحي: كيف ترى الموت؟
تأمل وجه صديقه الجميل ولمس من عينيه مشروع شهيد على خطا (وهب النصراني)، تقافزت الى ذهنه على أثر ذاك السؤال كلمات مولاه الحسين مع ابنه في الطريق الى كربلاء..
_أولسنا مع الحق؟
_بالتأكيد..
قال والشمم يملأ جوانب نفسه: اذن، هو أحلى من الشهد..
تبسمّ المسيحي ضاحكا.. وظهرت امارات الاجهاد على عينيه نصف المغمضتين.. شيّع صديقه بابتسامة وديعة وقفل راجعا الى سواتر الثغور..
كانت ليلة بيضاء تشبه الغسق.. نظر الى السماء الصافية الأديم.. وتنبأ لصديقه بثمار طيبة يقطفها الوطن.. راح يحدث نفسه: كأن التاريخ يعيد نفسه.. صدق من قال؛ كل يوم عاشوراء.. كل أرض كربلاء..
ولكن منظر أربطة الشاش البيضاء التي تضمد جراح يده اليمنى وقارورة الماء المرمية الى جانب علبة الدواء وحذائه المهترئ والمتسّخ بالطين.. كل ذلك أمره أن ينتظر لبرهة.. ألقى نظرة على البيوت البعيدة والتي ينام أهلها بوداعة.. تقلّص وجهه من الألم ودفن نظره في الارض خجلا..
بكى كنايٍ حزين وهاتف يهتف في سمعه: لايوم كيومك يا أبا عبد الله..
اضافةتعليق
التعليقات