العالم الذي نعيش اليوم فيه، عالم مثالي، وجوه مثالية، مظاهر بلا عيب، مبانٍ مبهرة، شوارع وهاجة، أجهزةٌ خارقة، منشورات لا شيء فيها سوى المثالية، أناس سعداء يشاركون كل شيء بمقدار مثالي ووفق تنظيم لا خطأ فيه لإحداث التأثير المثالي.
وبعد أن غمرنا الذكاء الاصطناعي بكل تقنياته، بدأنا نعيش في عالم أمثل وأكمل، حملات دعائية مثالية، منتجات مثالية، نصوص مثالية، فن مثالي، تفاعل مع العملاء مثالي، كل شيء يقف على الحافة، بدأ الأمر يصبح مرهقاً بمجرد رؤيته، لا تفرد، أنماط متكررة ناجحة وفق المقاييس المتفق عليها للتأثير، وكأننا كلنا جميعاً ألقينا في تجربة نفسية أو اجتماعية دون إذن مسبق.
الناس يُدفعون ليكونوا مثاليين على جميع الأصعدة مظهراً وشكلاً، كما الصور المحررة، ومقاطع الفيديو الآلية، والشخصيات الأيقونية الناجحة.
أعتقد أن كل ذلك بدأ من الكتب التي تعلمنا أن نفعل كل شيء بمثالية ونحقق الجنة على الأرض، ثراء، سعادة، ترف، رفاهية، جمال، جاذبية، تأثير، صحة، نجاح، ذكاء، وعلوم.
هناك هوس كبير بالتحسن والتطور والنمو، وعلى الرغم من كونها أمور إنسانية طبيعية ومرغوبة، لكن السبب خلفها هو ما يجعل منها حسنة أو سيئة، هذا السعي نحو المثالية اليوم نابع من رغبة طارئة على الإنسان للإبهار وتحقق أرباح من استخدام صورته بسبب طغيان الثقافة المادية والفكر الإستهلاكي عالمياً، أي إن الإنسان أصبح يعامل نفسه كسلعة، لم يعد إنساناً بل شيئاً لتحقيق مزيد من المال، المال الذي يشتري السعادة يحقق الجنة على الأرض كهدف نهائي.
لكن ذلك كئيب جداً، ومريض وممرض أيضاً، فمثلاً أدخل إلى مؤسسات وجهات من الصف الأول، فأجد العاملين يقدمون خدمة مثالية، يرتدون ثياباً حسنة، يتحلون بمظهر فتان، يبتسمون أحياناً، لكنهم بؤساء جداً، ليس هنالك روح في تلك الخدمة التي أحصل عليها ولا تزيدني إلا امتعاضاً وإحباطاً لسبب أجهله، حتى ابتسامتي التي تتولد بسببهم، زائفة سرعان ما تطير وتسقط كطيارة ورق سهلة التمزق.
أذهب لمبنى جميل، ربما أكون قد رأيته في إعلان مثالي ما، يسحرني في اللحظات الأولى، لكن البريق يذهب بعد الثواني الأولى ويبقى الجمود الخالي من المعنى، أجد نفسي مُرهقة، أشعر وكأني أحمل المبنى على كتفي.
لم تعد الفنون ذات روح أيضاً، كل شيء يفتقر إلى الإنسانية، كل شيء وكأنه جزء من سرك كبير، فجوهر الفن هو اكتشاف النفس الإنسانية والعالم، لكن إن قام بصنعه إنسان يجهل نفسه ويسعى إلى الأضواء من أجل تحويل الفن إلى مال، ثم إن كان يستعين بالذكاء الاصطناعي، فأي فن سيبقى؟
أصبحت أحب السير في الشوارع القديمة لأحتفظ بشعورها قبل أن تصلها موجة التطوير والحداثة، أحب رائحة المنازل الطبيعية غير المبهرجة التي تبدو آمنة وحنونة، الأماكن التي تقدم خدمات بطريقة لا تؤذي العاملين فيها وحتى وإن لم تكن مثالية، المحتوى الرقمي الذي قد لا يكون جميلاً بمثالية لكنه يعكس حياة إنسان مثلي، ما زال يريد أن يكون إنساناً لا سلعة، أتأمل الوجوه الطبيعية باستحسان كبير، وأعقد مع هذه الأشياء صداقات خفية، صداقات تذكرني بأني إنسان، يمكن أن أخطئ، لن أكون كاملاً، ولكني إنسان ذو روح حية، وهكذا أستطيع أن أواصل في عالم لشدة مثاليته قبيح جداً.
اضافةتعليق
التعليقات