في سوق العصر الرقمي الصاخب، تتصاعد الأصوات وتهبط، وكلٌّ منها يدّعي أنه نغمة العصر ولحن المستقبل. وفي لحظةٍ ودّية وجدتُ نفسي محاصرةً داخل حديثٍ مع صديقاتي عن زفاف إحداهنّ، حيث طغى ضجيج الاقتراحات لمراسم زفافٍ مستحدثة، تلخّصها تلك الجملة الباهتة المزعجة: “إنه الترند حالياً”. جملةٌ إنْ قبلتها سحبتك في ركاب الجهلاء، وإن ناقضتها اتُّهمتَ بالجهل والتخلّف.
ففي الحقيقة لم نعد نستخدم كلمة “قطيع” لوصف المتابعين بلا وعي، بل استبدلناها بكلمة “الترند” الأكثر أناقة. فما كان يُسمّى سذاجةً أو قلّة وعي، صار اليوم “مواكبةً للموضة”. ولقد ارتدى “المشي وراء القطيع” ثوباً رقمياً لامعاً، وتحول من فعلٍ غريزي إلى سلوكٍ اجتماعيٍّ مُعقلنٍ ومُحتفىً به.
الترند: القطيع الرقمي الجديد
إنّ “الترند” موجةٌ عابرةٌ تظهر على منصات التواصل، فيلهث الملايين خلفها: نفس “الميمز”، نفس الرقصة، ذات الرأي. الجميع يكرّرون ويشاركون، وكأنهم علّقوا عقولهم عند الباب.
وتظهر هذه الموجة كديمقراطيةٍ شكلاً، لكنها في الجوهر استبدادٌ في المضمون، حيث يظنّ الفرد أنه يُعبّر عن شخصيته، وهو في الحقيقة لا يردّد سوى صدى صوت الجماعة.
وفي عمق هذا الضجيج تطلّ علينا حكمةُ الإمام عليٍّ (عليه السلام) كطودٍ شامخٍ في زمن الرياح العاتية، حيث قسّم الناس فقال:
“عالمٌ رباني، ومتعلمٌ على سبيل نجاة، وهمجٌ رعاع، ينعقون مع كل ناعق، ويميلون مع كل ريح”.
وهو تشخيصٌ دقيقٌ يضع يده على جذر الداء: “ينعقون مع كل ناعق”. فالناعق هو الراعي الذي يوجّه غنمه بنعقه، والغنم تسير دون تفكيرٍ في الوجهة أو طبيعة العشب أو وجود الذئاب.
وهذا هو بالضبط ما يحدث اليوم، مما جعلنا ننسى حتى ترتيبنا الذي رتّبنا الله به.
ولو تساءلنا أكثر: من هم “الناعقون” الجدد؟ سنجد الجواب واضحاً ومعلوماً؛ إنهم المؤثّرون ومروّجو الإشاعات. فما إن يُطلق أحدهم صفّارته عبر منشورٍ مثيرٍ أو فيديو مختلَق، حتى يقفز “القطيع الرقمي” مسرعاً وراءه: يشارك، يهاجم، يمتدح، دون أن يتوقّف لبرهةٍ ليسأل: من هذا الناعق؟ وما مصلحته؟ وما حقيقة ما ينعق به؟ ولماذا تعلو الأفكار المبتذلة ويفشل الرصين؟
أسئلةٌ لا تنقطع لمن أراد أن يستخدم عقله، لكن الأغلب يفضّل إبقاءه في إجازة.
وهو الأمر المحزن حقاً، فسبحانه وتعالى قد ذكر في محكم كتابه كلمة “يتفكرون” في القرآن ثماني عشرة مرة، في مواقع متعددة بعباراتٍ مختلفة: ثم تتفكروا، أفلا تتفكرون، أولم يتفكروا، لعلكم تتفكرون، ولعلهم يتفكرون، لقومٍ يتفكرون… وقد تكررت هذه الكلمة لتبيّن للإنسان أهمية التفكير وماهية خُلق العقل؛ فهو للاستعمال، لا ليُركن على رفّ القطيع ويُستخدم لترديد ما يُقال فحسب.
من أصالة الفكر إلى حرية الشخصية
في الوقت الذي لم يعد فيه الاتّباع مجرّد مشية أغنامٍ في حقل، بل أصبح سباقاً رقمياً محموماً في زمن “الترند”، ولم يعد “النعق” مجرد صوت، بل أصبح فخّاً مبهراً يصطاد العقول، يجب أن نرفع سقف وعينا لنكون كالجذور الراسية في تربة الحق، لا كالريشة في مهبّ الريح.
ولنتعلّم أن نستمع، لا أن ننقاد، وببساطةٍ لنصنع هويتنا بوعينا، لا أن نكون صدى لصرعاتٍ عابرة.
ففي عصر “النعق الرقمي” يكون أعزّ ما نملك صوتنا الخاص، الذي لا ينطق إلا بالحق.
وهكذا نعود إلى السؤال الجوهري في هذا السوق الصاخب، حيث تتقاذفنا نعَقات الناعقين من كل اتجاه:
من أنت حقاً؟
هل أنت ذلك الصدى العابر لصوت القطيع، تُحمَل حيثما يُحمَلون، أو تنعق كما ينعقون؟
أم أنك ذلك الصوت الواعي الذي يرفض أن يكون مجرد رقمٍ في موجةٍ عابرة، ويصرّ على أن يكون نغمةً فريدةً في سيمفونية الحياة؟
وفي النهاية، تذكّر عزيزي القارئ: إنّ التاريخ لا يذكر من انقادوا وراء كل ناعق، بل يخلّد من كانوا أصحاب صوت.
فبأيِّ الفريقين تريد أن تكون؟
الخيار الآن بين يديك، فاحذر أن تكتشف متأخراً أنك كنت مجرّد صدى، بينما ظننت أنك صاحب صوت.
ولتكن ممن يعي قول الخالق عزّ وجلّ:
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.








اضافةتعليق
التعليقات