كانت روائح زهور الربیع تزکم الأنوف مبشرة بقدوم صیف حار دلت علیه أشعة الشمس اللاهبة المتبعثرة هنا و هناك، متناثرة في أرجاء المنزل، مخترقة النوافذ البلوریة التي اخترقتها سمفونیة أبدع الباري إیقاعاتها مراعیا کل التفاصیل الصغیرة. اختلط فیها نعیق الغراب و زقزقة العصافیر و طیور السنونو القادمة من البعید، و صیاح الدیك و حفیف الأشجار عند ملامسة النسیم أخادیدها اللطیفة و أوراقها الغضة النظرة، و هي تراقص خیوط الشمس لتعزف ألحان السلام.
کانت أم أحمد امرأة خمسینیة، خط الشیب شعرها الحالك و بدت في وجهها إنحناءات تحکي مطولا قصص الزمان. جالسة علی الأریکة المحاذیة للنافذة تجول ببصرها عبر النافذة أحیانا و نحو التلفاز تارة أخری و هي تغمغم بین الحین و الآخر یا للنهار الطویل ! جاءنا الصیف هذا العام دون سابق إنذار.
قامت تأخذ جولة إستطلاعیة في المنزل کعادتها عندما یحیطها الضجر علها تجد ما (تنقنق) علیه معارضة لا لأجل شئ ، بل فقط لتکسر جدار الملل المتعالي و تعدل آمبیر المزاج الذي بدأ بالإنخفاض.
عادتا سلمی و سامیة عند الخامسة عصرا من المدرسة و کأنهما قد خاضتا جولة ریاضیة تتلوها صراخاتهما المتعالیة عند ردهات المنزل و هما تحاولان التسابق نحو المطبخ و اکتشاف مفاجأة العشاء.
قامت أم أحمد و کأن دوامها قد بدأ للتو، وجهتهما نحو المغسلة التي اعتادت غسلها و تنظیفها و تعطیرها مرات متعددة في الیوم ، لتحضر لهما مشروب الحلیب الساخن مع کعکة التفاح اللذیذة التي برعت في طهیها. کانت الفتاتان تتوقان للوصول إلی هذه اللحظة عند کل مساء بعد العودة من المدرسة.
أجل إنها حماتي تلك المرأة التي قضیت برفقتها عشرة أعوام بحلوها و مرها مارة بکل الطرق الممتدة عمیقا في بطن السنین.
إنها امرأة نكدیة تحب الأناقة و النظافة و لا تتتسامح في هاتین الفقرتین بسهولة، تحب طهي الطعام بیدیها و لا تأکل طعاما لم تقم بطهیه أستثني في ذلك جارتها أم جاسم ، تلك الثرثارة التي علت فوق کل مذیعي العالم بدرجة.
ولکن هناك سر یتلاعب علی لسانی أحب البوح به و هو أنني کنت أستمتع بأحادیتثهما أحیانا حیث کانت تنقلني عبر جسور الزمان للوصول رجوعا إلی عالم لم أکن فیه یوما، تسردان تفاصیله و جزئیاته و هما تتحسران علی مفرداته العجزة.
عن زفافهما و لقائهما الأول و ثوب العرس الذي خاطته یدا أم عصام، تلك الخیاطة الماهرة التي لیس لها مثیل في هذا الزمان. عن مسحوق الغسیل المختصر في الصابون و إعداد الطعام الذي کان یعد یوما بیوم، إذ لم توجد برادات کالتي تعلو أثاث المنزل حالیا. کانت حیاتهم حافلة بالحرکة مفعمة بالحیاة، مرشوشة بالبرکة.
کانت دوامة الأفکار لا تنفك تأخذنی جیئة و ذهابا. هل یا تری من الممکن أن أحب هذه المخلوقة أو أن أتعایش معها بسلاسة علی الأقل؟
بت کالکرة تتدحرج في دجی الأیام دون هوادة، فالهوة بیننا کبیرة و الفروق کثیرة بدءا بالعمر و الثقافة و علوم التكنلوجیا العصریة و الثوابت الخلقیة و العادات و التقالید الرثة الموروثة عبر العهود النمرودیة. کل ذلك ینتتهي عند نقطة البدایة زوجي و ابنها. ولکن مهلا عهد قطعته في قلبي کالقاضي یدق مطرقته کلما حدثت فوضی، و هو أن أقدم ما أقدمه لله فقط دون اعتبارات أخری خالصا لامعا، لا تشوبه شائبة حتی في دهالیز القلب، لذا لا بد من مخرج!.
الحب في الوهلة الأولی من السمات الراقیة التي یمتاز بها الإنسان عن وعي دون سائر المخلوقات.
هناك من یمتلك قلبا صافیا کبیرا ینبع بالحب لیسع کل الخلیقة یقسمها قسما متساویة بین الجمیع. إنها حالة تدریبیة اکتسابیة، فما الضیر في أن أحب الجمیع دون قید أو شرط ما دمنا نتتشاطر وجه الأرض سکنا و صفحة السماء ظلا ساترا ؟!
ثمانیة أسباب لكي أحب حماتي:
1. تل التجارب:
بالقطع و الیقین أن لها من التجارب ما تفوقني بمرات عدیدة، إنها الشخص الذي سبقني في السیر و تطلع إلی کل المطبات و المعاثر، لذا کان استفسارها یجنبني الکثیر من الأخطاء في کل شئ، في الطهي و التربیة و العمل و کل مهارات الحیاة.
2. رعایة الأطفال:
قد تكون الشخص الوحید أو ضمن القلة الذین یحبون أولادي بإخلاص و تفان کما أحبهم أنا و أستطیع الإعتماد علیها في رعایتهم أحیانا عندما أضطر لإنجاز بعض الأمور المستلزمة كزیارة الطبیب أو المشاركة في مؤتمر علمي و تنموي و ما إلی ذلك من أمور طارئة.
3.الشكر:
تبقی هي صاحبة الفضل في تربیة زوجي الذي یحاول جاهدا إرضائي و إنجاح التجربة الأسریة و الأبویة بکل مضامینها السامیة، فمن لم یشکر المخلوق لم یشكر الخالق.
4.لكي نحفظ تراث الماضي:
إنها الشخص الذي جاء من زمان أخر یحمل في جنباته قصصا و تجارب و حكایات عن أناس قد مات الكثیر منهم و ستموت قصصهم إذا لم نحاول استرجاعها و الإستفادة منها كتراث و إرث أبوي. من هنا كان استدراج أم الزوج للحدیث أمرا شیقا و ممتعا یفتت لحظات الصمت المملة و یتیح الفرصة لإیجاد أنیس لساعات الوحدة و الضجر.
5.عنصر المساعدة:
تستطیعین الإعتماد علیها في إنجاز کثیر من أمور المنزل و أعماله المتراكمة إذا ما سادت بینكما أجواء من االود و المحبة و الألفة و التعاون.
6.الدرع الحامي:
تعتبر أم الزوج درعا حامیا و جدارا ساندا لا تقل مكانة عن الأم بالنسبة للأولاد في طوارئ الزمان كفقدان الأب و الأم لا سمح الله.
7.الثواب الإلهي:
قد تكون الحماة سببا لکسب الخیر و الثواب إذا كانت كبیرة و یجب مراعاتها، فهذه االحیاة بالتالي ساحة لعب یجب فیها کسب النقاط.
قال رسول الله (ص) : من قام علی مریض یوما و لیلة بعثه الله مع إبراهیم خلیل الرحمان فجاز علی الصراط کالبرق اللامع. .
8. تطویر العلاقات:
قد تشكل الحماة بابا واسعا نحو علاقات جدیدة و مستحدثة مع أناس و أصدقاء و معارف و أقرباء کثر، و هي طریقة لا بأس بها لکسر الروتین و إیجاد أصدقاء جدد.
اکتشاف ماهیة الحیاة و مدی تفاهتها عندما تكشر كواسر الدهر عن أنیابها لتلتقط أعز الأحباب لدی قلوبنا في لحظة من لحظات الغفلة، لتتركنا حیاری دون حیلة و مخرج توضح لنا جلیا المهم و الأهم في هذه الدنیا، و لا تترك لنا سوی خیارین إما أن نكون إنسانا و نتعامل بإنسانیة في کل المواقف أو نبتعد عن هذا لنقترب شیئا فشیئا نحو الحیوانیة السفلی، و النسب تختلف، فهناك من یخطو خطوة و هناك من یخطو خطوتین و هناك من یسیر مسرعا لیصبح أجلكم الله حیوانا بامتیاز. و في ذلك لم یترك الباري عز و جل درسا إلا و أعطانا إیاه حتی وصلنا لمرحلة (و كرمنا بني آدم ). أرجو منه تعالی أن نكون أهلا لهذه الكرامة.
اضافةتعليق
التعليقات