ربما كنت في الرابعة أو الخامسة من عمري، عندما نبهتني أمي بأن هنالك معبود يدعى (الله) هو الذي خلقنا وخلق هذا الكون بأسره... ربما كانت هذه خطوتي الأولى لمعرفة الله، وعندما سألتها أين هو، أشارت بإصبعها نحو السماء، ومن هنا أدركتُ بأن الله هو شيء غير مرئي ولا أستطيع التواصل معه إلاّ بالدعاء والصلاة.
وبعدما بدأت افهم قليلاً، لاحظت بأن الله يأخذ حيزاً كبيراً بين الناس، وجدت الله بين كتبي المدرسية، اسمه يتكرر أكثر من سبع مرات في القصيدة التي فرضت عليّ المعلمة أن أحفظها ظهراً عن قلب... وفي كل مرة أراد بها والدي أن يبعث رسالة إلى عمي بدأ كلامه بـ (بسم الله).
في إحدى المرات كان يظهر على التلفاز شيخاً ذا عمامة بيضاء، قال بأن الإنسان المؤمن هو من يستشعر وجود الله، ويقشعر بدنه بمجرد ذكر اسمه الكريم، ويشتاق لله كما تشتاق الأم لرضيعها وتهب السكينة في روحه التائهة ما إن يطلب من الله الأمان.
كلامه كان جميلاً ومؤثراً ولكني لم أذكر يوماً بأني شعرت بالسكينة في درس القرآن الذي كانت تعطيه لنا معلمتنا العصبية... بل كنت أعد الثواني واللحظات حتى ينتهي الدرس، على الرغم من الأسئلة الكثيرة التي كانت تسرح في مخيلتي إلاّ إني لم اتجرأ يوماً على طرحها، لأني كنت واثقة بأن الجواب سيكون: اصمتي ايتها الفتاة.. هذا كفر!.
أمّا الصلاة بالنسبة لي لم تكن سوى فرضاً ظاهرياً أُؤديها حتى لا أشعر بالذنب، وفق مبدأ كل الناس تصلي وأنا لا!، والصوم كذلك..
لم أشعر قط بتلك الروحانية التي يتحدث عنها أصحاب العمائم، ولم أجد الله بين الناس إلاّ في حال إنهم أرادوا اثبات شيء يستعينون باسمه ويقسمون بأسمائه الحسنى...
كنت أخاف من الموت.. من عذاب القبر الذي يتحدث عنه الناس، من منكر ونكير، من العقارب والثعابين التي ستهاجمني في القبر... ومع الأسف هنا بدأت تتأزم علاقتي مع الله أكثر فأكثر، وأصبحت أخاف منه كثيراً، أخاف منه ليس لأنه الله، لا!، أصبحت أخاف منه لأنه تَصَور لي بأنه الجلاد الذي لم يُرد شيئاً من خلقي سوى تعذيبي..
وفكرة ظهور الكثير من الملحدين أثار في نفسي شكوكاً كبيرة، خصوصاً وان نزعة الخوف في داخلي كانت تلعب دوراً كبيراً في تشويش أفكاري وتُلهب اعصابي، فكنت أقول لنفسي، ماذا لو مِتنا ووجدنا بأن ليس هنالك الله، ولا نشور وليس هناك أي شيء من الذي ينقلونه أصحاب المنابر... وأعود لنفسي وأقول ماذا لو خلعت الحجاب وفعلت كل شيء يحلو لي وبعد ذلك متّ واكتشفت بأن هنالك الله وهنالك حساب وعقاب؟!.
من تلك اللحظة وانا أحاول أن أقص حبل الشك باليقين واخرج نفسي من هذه الدوامة، ابحرت في كل ما له علاقة بالإلحاد والإيمان، من نظرية دارون، إلى كل الأفكار التي تعزز عدم وجود الله، ولكني ومن باب العقل رفعت رايتي البيضاء، فجميع الأفكار الإلحادية التي إطلعت عليها لم تتوافق مع العقل والمنطق، وما وجدته من الكلام لم يكن سوى مهزلة فكرية تحت إطار علمي كاذب.
هنا كنت قد تجاوزت مرحلة المراهقة وبدأت عندي مرحلة جديدة أكثرَ تفتحاً وأكثرَ نُضجاً، أصبحت أتابع المحاضرات الدينية التي تَبين لي من خلالها عظمة الله، فكنت أتساءل مع نفسي هل من المعقول ان هذا الخالق العظيم لا يريد مني سوى تعذيبي؟، هذه التساؤلات لم تكن سوى استفهامات عشوائية من فتاة لم تتجاوز عقدها الثاني..
بدأت أبحث عن الله بين الكتب، بدأت أعرف عنه أشياءً كثيرة، تبين لي بأنه رب حنون ويحب عباده كثيراً... فبدأت اسأل إذا كان الله يحبنا اذن فلماذا يقبل أن تنزل دموعنا ونعيش حياة صعبة؟ بينما الكافرون يتلذذون بحياتهم الدنيوية؟!.
فتذكرت بأن أبي قبل ان يتزوج أمي اختبرها، ووضعها في ظروف صعبة، لكي يتأكد من حبها له وبأنها قادرة على فعل المستحيل من أجله!، وأنها تستحق أن تكون اماً صالحة لأولاده، وهنا وجدت بعض صفات الله في أبي، وبدأت تتبين لي الحقائق، وتيقنت أكثر بالدلائل النقلية من جملة (إن الله إذا أحب عبداً ابتلاه)، بأن كل ما نمر به ماهو إلاّ اختبارات من الله لعباده، إذ ان السيدة زينب (عليها السلام) والتي هي من أحب خلق الله عندما رأت ما رأت في يوم عاشوراء قالت بملء الفم: (ما رأيتُ الاّ جميلاً).
لأن الله يحب أهل البيت كان يجعلهم في مواقف صعبة واختبارات رهيبة على الرغم من عصمتهم ولكن الله كان يحب أن يرى عبده ينتصر على الدنيا ويظفر بالفوز بحب الله وآخرته.
ومن تلك اللحظة تغيرت لدي مفاهيم كثيرة، أصبحت علاقتي مع الله عميقة أكثر، وجدت الله الصديق الذي أشكو إليه سوء حالي وجهلي، فعندما تتأزم حالتي أهرع إليه باكية فيُطبطب عليَّ بكلمات من قرآنه الكريم ويقول لي (أنا عند حسن ظن عبدي بي)، لقد كان الله يختلف كثيراً عن تلك الصورة التي رسمها لي المجتمع...
في اللحظات التي لم يفهمني بها أقرب الناس، كان يفهمني الله وكنت أرى عنايته الكبيرة، قوته الخارقة كانت تحرسني وتعزز من صبري وايماني أينما كنت.
من لحظتها أيقنت بأن حب الله لا يُمنح ولا يباع، بل يُكتشف، فقط يكتشف.. حتى وإن خلقت في عائلة مؤمنة بالله، ليس ذلك كافياً لأجد الله في داخلي، يجب أن أتعنى لله بنفسي، واكتشف آياته بروحي.. واخلق مع همساتي تواصلاً مع المعشوق الحقيقي..
أصبحت قريبة من الله، بدأت اشعر به، انه يكلمني دائماً، فكلما أهرع إليه بقلب خاشع وافتح المصحف تأتي الكلمات كبلسم على جرحي تلطف أحزاني علي، وتواسي ألمي، فتوافق كلمات القرآن مع ما أمر به شيء عجيب جداً.
أصبحت أخاف الله، ولكن منطق الخوف عندي تغير، أصبحت أخاف ان أرتكب الإثم لأني أحب الله كثيراً ولا أريده أن يغضب مني أو (يزعل) بسبب تصرفاتي الطائشة.. أصبح خوف الله عندي مقروناً بالحب، الحب الذي لم تستطع الناس أن تعرفني عليه..
ولا أنكر بأن الطريق كان وعراً، فأعداء الله وضعوا لي مطبات مُثيرة ومغرية جداً، فأفكارهم التضليلية كانت تلاحقني أين ما ذهبت، بين كتب المدرسة وبين قنوات التلفاز والإنترنت، ولكن الأصعب هو التضليل الديني الذي تبنته الفئة الكافرة باستخدام اسم الله للوصول الى غايات خبيثة، ولكني كنت متأكدة بأن يد الحق فوق أيديهم ولا يُضل الله عبداً أتاه بقلب سليم.
أنا متأكدة بأن هذه التجربة لم تقتصر عليَّ فقط، ربما الكثير عاش حالتي، ربما بعضهم وصلوا إلى منتصف الطريق ولم تتملكهم الشجاعة ليبحثوا عن الحقيقة فأضلوا الطريق، وأخذتهم العزة بالكفر واهتدوا بالضلالة، وربما هنالك الكثير وبتوفيق إلهي أكملوا الطريق بحثاً عن الله عز وجل، الله الذي يسكن القلوب قبل الألسن... فوجدوا الله واقفاً لهم في نهاية الطريق يحمل قنديل الهداية ليُضيء لهم عتمة فكرهم وحياتهم، ففي كل الأحوال رحلة البحث عن الحقيقة لن تنتهي.. اذن اربطوا أحزمة الإيمان جيداً، وانطلقوا إلى الله.
اضافةتعليق
التعليقات