هواء عقيم يخترق أحشاء المكان، تتكئ الدموع على الوجنات مصطفات بتتابع سريع، ودمع ساخن يتجمع داخل الجفون، يقفن على حافة المخيم مترقبات لهيب النار المتصاعد على مقربة منهن، تتسارع الأقدام بحثاً عمن تبقى في مسيرة إحياء الحق، يتفقدن الوجوه الباكيات ويجمعن صريخ الأطفال على محمل الأمان فتكون أحضان الفواطم منهن مدينة للسكينة.
تهدئ روع الموقف وتبث نفحات الإيمان في صدور من سار على هدى مؤمنا بنصرة الله، لتفوح الدماء الزكية معلنة نصرة الدم على السيف ويكبل الطرف الآخر بالخزي والعار منذ لحظة اشهار الكفر والوقوف في وجه حامل رسالة جده والناصح بدين الله، فتَرتعد الأجساد وينقسم كل جمع إلى فريقين، منهم من أسرع هاربا من جشع بني أمية إلى فردوس الإله ومنهم من يقف طامعاً لا يستحي.
حتى يبدأ شيئا فشيء ينزع عنه رداء الانسانية ويتوشح بلون قاتم لا يشبه سوى البشاعة عجبا كيف وصل عذاب الإنسان لأخيه أنه يتفنن في التنكيل بألوان العذاب وهذا يدل على قساوة قلوب البشر إذا غضبوا على بعضهم البعض فيصل العذاب أبشع لون فيه، لكن هو هوان الدنيا و"ما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا" "والعاقبة للمتقين".
الزهرة النبوية امتداد للرسالة الحسينية
ذر الرماد هوانا فيُرمى على سادات البشر وأولياء الله فيها بالفظائع، وينوب عنهم من هو أقل سناً فيذود عنهم ويدافع ومنهم ربيبة النبوة وسيدة نساء عصرها آمنة بنت الحسين وما هو متعارف عليه سكينة لقبٌ لقبتها به أمها الرباب لسكونها وهدوئها، من بيت أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، نشأت في حضن الرسالة، وترعرعت في حجر الإمامة، فلما اشتد القتال في مذبح الشهادة ارتقت الأرواح لربها بكل إباء وطاعة، جار الحزن عليها وكفكفت ألمها لتسير مكملة رسالة أبيها مدافعة عن دين الله بين الأزقة المتعرجة، والبيوت المتكأة على بعضها بحنو أزلي وألسنتهم وأبصارهم تحكي للناظر قصة تاريخ طويل ورسالة انسانية على عاتقهم نقلها.
ليتحول أديم الأرض إلى طبقات من العصور والأزمان، تنقل قدميها بخطى بطيئة، في ذلك المكان العتيق، وفي تلك الزاوية من الزمن المنسي على خطى السبايا ثم أردفت أن تثور كما هو مقدر على آل بيت النبوة، فبغض النظر عن الذين لم يتمكنوا من فهم حركة الإمام الحسين (عليه السلام) لأنهم جهلوا حقيقة أن تقييم نتائج المواجهة يجب أن تُدرس من خلال علاقتها بالأهداف من وراء تلك المواجهة.
وهناك من صعب عليه فهم حركة الإمام الحسين (عليه السلام) لأنه أعتاد على تعريف محدود وضيق ومادي للنصر فلم يعرف بأن النصر يمكن أن يكون عاجلا كما يمكن أن يكون آجلاً، أو خالدا، فالخيار الوحيد في المواجهة لا ينحصر في النصر أو الهزيمة في عامل الزمن متجاوزين اللحظات الراهنة وناظرين للمستقبل لتقريب ما تقدم، فعند استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) نشط دور السيدة سكينة في الدفاع عن حقوق آل بيت النبوة، وقد أبلغت رسالة الإمام الحسين إلى جميع الأقطار الإسلامية في ذلك الوقت، وبخاصة أثناء السبي من الكوفة إلى الشام، لتعيش حياة حافلة بالعلم والأدب والنشاط الاجتماعي، فتكون سيدة نساء عصرها وأوقرهن ذكاء وأدبا وعفة، تزين مجالس نساء أهل المدينة بعلمها وأدبها وتقواها.
منـزلها ندوة دائمة للعلم والفقه والحديث، وهو ما جعل المؤرخين يطلقون عليها لقب «سيدة نساء عصرها وعقيلة قريش»، وكانت من الأدب والفصاحة بمنزلة عظيمة مع ما هي عليه من التقوى والعبادة، وكان منزلها مألف الأدباء، وهي بذلك تعد من أول من أنشأ «الصالون الأدبي» بمفهومنا المعاصر، فهي ذات بيان وفصاحة وذكاء، ولها السيرة الجميلة والكرم الوافر، متصفة بنبل الفعل وطيب الشمائل، ذات عبادة وزهد، كلما كبرت في سنها تزداد قربا من الله، ولأن الله قدر على أهل بيت النبوة أن يحملوا الرسالة الإلهية بكل مفاصلها فلم يستثنى منها صغير ولا كبير ولم تختص الرسالة بالرجال فقط بل انتقلت إلى عاتق النساء فحملنها على أحسن وجه وكن صبورات على ملمات الزمن شامخات في وجه الكافرين فكفكن الدموع على محراب الشهادة وألقين الخطب في مجالس القادة ليقلبن الأدوار ويجعلن كل من يقف يستحي على ماء وجهه وهو يناصر أرذل القوم ضد أشرفهم.
وكانت السيدة سكينة (عليها السلام) شجاعة حملت رسالة الكلمة وألقتها بكل قوة مما زاد خوف الأمويين ومن بعدهم العباسيون منها فدسوا رواتهم ليغزلوا خيوطاً من الباطل بأخباراً مزركشة، خيطاً من حق، وخيطاً من باطل، قَبِلها الناس لما فيها من عذوبة الحق، ومَلق الباطل، فكما قتلوا الإمام الحسين بالسيف، قتلوا ابنته سكينة بالكلمة الخبيثة لتتخلد ذكراها وتنزع طوق الغربة لترتدي ثوب الأمان بحلة حسينية طاهرة فتسكن إلى جوار حبيبها ليأخذها حلما طويلا تتبخر فيه الروح إلى السماء عام 117 هـ في جوار أبيها الأنيس لكل نفس بعدما هبت نسائم الرؤوف ورسمت قدر اللقاء من نفحات العطوف، فالسلام على من كان التوحيد في صدره كالشهيق، وعلى أهل بيته خزان الهدى ومنتهى العلم العميق .
اضافةتعليق
التعليقات