كانت الساعة قد تجاوزت الواحدة بعد منتصف الليل وهو مازال مستيقظاً وأجفانه المنهكة لم تلامس الرّقاد بعد.. کانت من أطول الليالي في حياته وأَشدَّها قسوة وإيلاماً لروحه وقلبه..
أخذ يطيل النظر في الساعة المعلقة أمامه ويلاحق عقاربها بتوجس وحذر، إذ لم يبقَ على طلوع الفجر إلا سويعات معدودة وهو لم يحسم قراره وأفكاره الهائجة التي لم ترسُ بعد في مرسى..
حاول أن يستعيد أحداث ما حصل اليوم ويقلِّب الأمر على عدة وجوه لعلّه يهتدي إلى حلّ سحري يريحه وينقذه من عذاب الوجدان.. كان قد فكّر كثيراً حتى أعياه التعب والأرق، إلا أنّه لم يكن يدرك حجم الامتحان الصعب الذي يواجهه وهو الذي قد تجاوز امتحانات كثيرة في معترك حياته بجدارة ونجاح وتألّق، ولكن هذه المرة كان الأمر مختلفاً.
لكم كان من الذين يؤمنون بالمبادئ والقيم وضرورة أن يكون لكلٍ إنسان رسالة وهدف في هذه الحياة، حتى أنّه قضى جلّ عمره الذي لم يتجاوز الثلاثين في خدمة الناس من حوله، ولم يتوانَ عن تقديم يد العون والمساعدة لكلّ من يطرق بابه.
تجرّع مرارة اليتم والحرمان وهو مازال يرتع في سنيّ الطفولة الأولى، بعد أن فقد والديه في سفرٍ أبدي لم يعودوا منه قط.
كانت سنوات الحرمان والفقد كفيلةً بجعله إنساناً تعيساً مكسور القلب مهيض الجناحين، إلا أنّ وجود جدّه بجانبه ذلك العود البري الصلب ودعمه المستمر له، خلق منه إنساناً سوياً مفعماً بالعطف والإنسانية.
كان يكبر يوماً بعد يوم وفي نفسه تتنامى بذرة الرحمة والعطف على الأيتام، ودائماً ما كان يوليهم الرعاية والحب والاهتمام حتى بات تأسيس دار للأيتام وكفالتهم حلماً لا ينفك يراوده في المنام واليقظة، وكان التحاقه بكلية الطب قد توّجَ أفعاله وكسا أعماله الخيرية بحلّة إنسانية قلّ نظيرها.
كانت عيناه تلتمع ببريق غريب ونشوة عارمة تجتاح كيانه كلّما رسم في مخيلته مستقبله الواعد وهو لا يفتأ يعدّ الليالي والأيام لتحقيق أمنياته، وبالفعل كل شيء كان يسير وفق ما خطط له، فها هي أحلامه تتجسد أمامه حيّة تنبض بالحماسة، وها هو يوصل نهاره بليله بين المشفى ودار الأيتام التي لم يمرّ سوى بضعة أيام على افتتاحها.
كانت حياته تبدو متناسقة ومتناغمة كلوحة فنية رائعة خطّتها يد فنان بارع، إلا أنّ صروح أحلامه قد تداعت وتهدَّمت دفعة واحدة وهو الآن يبحث عن بقايا أحلامه وسعادته بين أنقاض نفسه المنهارة.
لطالما كان سباقاً لفعل الخير وشغوفاً بإسداء المعروف لكل من يعرفه ولكن هذه المرة... قطع سيل أفكاره أنين جدّه الملقى بجسده الهزيل على السرير بجانبه، وهو يتلوى من الألم أثر سقوطه منزلقاً على أرضية الحمام، مما أدى إلى إحداث كدمات عديدة وكسر في رجله اليمنى وهو يحتاج الآن إلى الراحة التامة عدّة أشهر، حتى يتماثل للشفاء ويستردّ عافيته ليتمكن من المشي من جديد.
كانت خيوط الفجر الأولى تلوح في الأفق عندما ناول جدّه مسكِّناً علّه يخفف من حدة ألم رجله، وهو الآخر كانت روحه تعتصر ألماً وضياعاً وشتان ما بين ألم الروح وألم الجسد!
إنه يدرك تماماً مسؤوليته وواجبه، فهو الوحيد لجده، وهو لا يملك أحداً سوى هذا الحفيد حتى يقوم برعايته والاهتمام بأمره.
إذن كان عليه أن يشطب قائمة أعماله في دار الأيتام ويلغي كل مشاريعه، حتى عمله في المشفى كان يجب أن يتخلى عنه ويتفرغ فقط لخدمة جده الذي لم يبخل عليه في تربيته وتنشئته. أخذ نفساً عميقاً علّه يستيقظ من هذا الصراع الناشب داخله، إلا أنه ارتدَّ بزفرة وآهة حزينة أرجعته إلى واقعه الضبابي.
إنه يعشق جده ويحترمه ويقدّر جهده وتعبه، كيف لا وهو الذي كان له أباً وأماً وأخاً إلا أنه الآن مشغول حد الثمالة، ومنغمس جداً في أعماله الخيرية ومساعدة الأيتام، ثم أن هناك الكثير الكثير من المرضى ينتظرونه وهم في أشد الحاجة إليه..
نعم إنه كرّس حياته لعمل الخير وخدمة الإنسانية ولكن ليس بهذا الشكل وبهكذا وقت.. كان مسترسلاً في تقديم تبريرات لنفسه عندما صفعه ضميره بسؤال ظل يتردّد صداه في روحه المعذّبة وسمع نفسه تلهج حائرة: أوليس جدك جزءاً من العالم الذي أقسمت ونذرت نفسك لخدمته، أليس جدك هو أول من أخذ بيدك وسار بك في طريق الخير والتفاني؟!.
غمرت أشعة الشمس أرجاء الغرفة وغمرت روحه دفئاً وطمأنينة وسلاماً.. أشاح بوجهه نحو جده وابتسامة رضا تعلو محيّاه وهو يتمتم مع نفسه: من الرائع يا جدي أن تكون ضيفي في المشفى وسأكون طبيبك وأنيسك إلى آخر عمري.
اضافةتعليق
التعليقات