في غياهب الليل، ستُخطئ سفيتنك في تلمّس الطريق، وتتشعب الاتجاهات فتتوه، فتنقاد على غير هدى مع التيار، لتطأ من حيث لاتدري دوامّة قد لاتخرج منها سالما، في الوقت الذي كان يعوزك فيه التعلق ب قشّة من نور، وهج شمعة، نجمة قصيّة تتجلّى في الظلام؛ تكون دليلك لشاطئ الأمان.
على المرء أن يستنير بنور العلم والمعرفة في رحلته بهذه الحياة، فمحال أن يتراءى لك أفقك إن لم تختر لك مصباحا يكون بوصلتك للإبحار نحو وجهتك.
قد يُقذف ذاك النور في قلبك، وقد يعطيك احدهم شمعة متوهجة او باهتة او محتضرة، وقد يكون عليك أن تلهث طويلا لتصل مع شراع مثقوب ومجاديف مكسورة الى شمس الحقيقة.
وربُّ النور حاشا أن يخلقنا ليتركنا نتخبّط في هذه الظلمات، لذلك اعطانا عدّة قبسات تتراءى من خلالها كل الطرق التي تؤدي اليه، فأعطانا نور العقل ورفع القلم عن فاقده، وأرسل الانبياء والمرسلين وأتمّ الحجّة على البشر.
يقول نبيّنا محمد (ص): بالعلم يُطاع الله ويُعبد، وبالعلم يُعرف ويُوّحد ويُعرف الحلال من الحرام.....، وكلمة العلم وردت في القرآن الكريم (750) مرة، ولكي تتحقق هدفية خلقنا وهي عبادة الله وحده، _(وماخلقت الجن والانس إلا ليعبدون)_ علينا أن نعرف الخالق لنعبده حق عبادته، وبالفطرة التي زرعت في دواخلنا وبالتأمل في المخلوقات نعرف بوجود الصانع، وبالمبعوثين منه عزّ وعلا نعرف صفاته والذي يبغيه منّا.
وهكذا في كل سنن الكون وآياته يجب علينا ان (نعرف ونعلم) قبل ان نتبّع أحدا أو نحجم عن آخر او نسلك طريقا دون غيره... ومجاديفنا في سبيل ذلك؛ ذات الوسائل في كل خطوة وهي العقل وآيات الله وسنّة نبيه.
كل جريمة قد بدأت يومذاك!
فإن كان الدليل والطريق واضحا، ماسبب الانحراف الحاصل في ديننا واعمالنا وأخلاقنا الفردية والمجتمعية، لماذا البعض يرى الاسلام دين السلام وغيره يراه دين اللانسانية!.
احد اهم الاسباب هو الخلل في المعرفة _الدينية، العقائدية، السلوك، التعامل_ والتي وصلت للكثير مشوّهة والامر يعود الى بداية الانحراف، اترون كيف تسقط بطاقات مصفوفة وراء بعضها ما إن تحرّك البطاقة الاولى وهي المسند الاساس والركن الاول، للتهاوى البقية أرضا من وراءها؟!..
مثل العقد او المشاكل النفسية للمرضى يُرجعها الكثير من علماء النفس الى حادث او اشكال وقع في سني الطفولة الاولى..
عندما نعيد فتح صفحات تاريخية مؤلمة طوتها يد الظلم، لانريد بذلك ايقاظ الفتنة وهي نائمة كما يظن البعض!، نريد (معرفة) رؤوس الفتنة، معرفة الخلل، معرفة أساس الانحراف، الاسباب والمسببين لكل هذا الارهاب، نشخّص مكان الداء لنعرف الدواء، فاولئك الذين يحزّون الرؤوس ويُكرهون الناس على (دينهم) ويغتصبون الاراضي والاموال بغير حق لم يأتوا من كوكب اخر، هم نتائج لمقدمات، هم صنيعة من انقلب على الرسول بعد استشهاده و غصب الخلافة وانتهك الوصايا.
قد يقول قائل؛ كل ذلك حدث والامام علي وفاطمة (عليهما السلام) لم يحركا ساكنا؟!
أما علي (ع) فقد كان مأمورا بالصبر ووضع سيفه جانبا مخافة الفتنة وارتداد الناس عن دينهم، وأما الزهراء (ع) فكشفت الزيف والنفاق والظلم في عدة موارد..
اتجهت السيدة الزهراء الى المسجد وتحدّت السلطة وخطبت خطبتها الفدكية المعروفة وطالبت فيها بتنفيذ وصية الله ورسوله وهي حق بعلها علي في الخلافة وبحقها في فدك، وقالت في معرض خطبتها بكل شمم:
"اعلموا انّي فاطمة! وأبي محمد"... هي فاطمة لمن لايعرف؛ احب الناس الى رسول الله، قرة عينه وثمرة فؤاده وروحه التي بين جنبيه، هي التي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها، والتي نبّه النبي (ص) الناس واشار الى مكانتها مرارا و كتب العامة تطفح بتلك الاحاديث.
هي تعرّف وتذكّر وتبلّغ وتنذر بهذه الجملة لتخاطب بعدها الرأس والقلب معا..
إنّ بطاقة التعريف مهمّة جدا في الخطاب الموجّه، ولذلك عندما خاطب الامام علي بن الحسين (ع) في مجلس يزيد قال: أيها الناس أنا ابن مكة ومنى أنا ابن زمزم وصفا.... انا ابن علي المرتضى.. انا ابن فاطمة الزهراء... انا ابن المقتول ظلما، فلم يزل يقول أنا، حتى ضجّ الناس بالبكاء والنحيب.
ولاغرو في ذلك، فالتاريخ يخبرنا أن الكثير من أهل الشام لم يعرفوا انهم احفاد الرسول (ص) عندما دخلوا كسبايا سلام الله عليهم وتصوّروهم خوارج!.
ومن العجب العجاب أن نرى في يومنا هذا من لايعرف فاطمة! وهذا يدل على تقصير كبير ونحن نعيش في عصر الاعلام والتكنولوجيا ومساحة الحرية فيهما واسعة..
مؤلم ومبكي أن تشاهد مقطع فيديو يسأل فيه المذيع مجموعة من المارّة عن اسماء ثلّة من الممثلين ولاعبي كرة القدم ويعرفونهم بسرعة، ثم طفق يسأل عن السيدة الزهراء، فتجيبه احداهن انها بنت الامام علي، واخرى تقول لا اعرف!!.
لقد كان امير المؤمنين علي (ع) يأخذ فاطمة رغم مرضها وبرفقة الحسن والحسين الى بيوت المهاجرين والانصار _بيتا بيتا_ يخبرهم بمظلوميتهم ويحثّهم لنصرتهم، ونحن نستطيع بكبسة زر الدخول الى بيوت الشرق والغرب لكننا نخاف او نتقاعس او نتخاذل!.
ومن موارد سخط الزهراء على السلطة الحاكمة وعرّفت فيها عن مظلوميتها، هي اخفاء قبرها، ووصيتها لعلي بدفنها عندما تهدأ العيون و تنام الابصار ولايحضر من ظلمها في جنازتها.
ليت شعري؛ سليلة النبوّة وخير النساء، بنت اطهر كائن واشرف مخلوق في العالم كله لا قبر لها دون كل النساء والرجال الذين كانوا حول النبي (ص)!!
الانسان لايعرف حتى يتساءل، وحري بهذه التساؤلات ان تنبش عميقا في داخل كل من يشكك برزايا تلك الايام التي سنداولها بين الناس لتنكشف اسرار تلك الحوادث.
هل لهذا الليل من صباح؟!
يقول ليوناردو دافنشي: منحنا الله كل شيء مقابل ثمن هو الجهد.
من يريد ان يسلك هذا الطريق ويتعرّف على المجهول؛ عليه ان يتابع ويقرأ ويهتم ويتعب ويتألم، عليه أن ينقّب في التاريخ عميقا ليعرف الحقيقة، ومن يريد أن يعرّف الاخر على هذه الظلامات ويهديه؛ عليه أن يكون على استعداد لارتداء جلباب الابتلاء، فالسيد كاظم الكفائي بسبب كتابه: (الزهراء في الادب والتاريخ) حكم عليه بالاعدام في عهد الحكم البائد، ولكن الله نجاه من الموت، (ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون).
نعم؛ بالمعرفة تميّز الفحم من الالماس، الجسر الحديدي القوي من الخشبي الرديء، الشمعة القوية التي تقتدي بهداها من التي تذوب وتحرق اصابعك وتدعك تتخبط في الظلمات وحيدا، وإن ميّزت الثرى من الثريا عليك أن تختار ومن ثمّ تعمل وتقتدي بمن اخترت بدقة ومسؤولية، وليتسلم ربّان قوي دفة سفينتك، ولاتكن كأولئك الذين قال عنهم امير المؤمنين: الناس كركب يُسار بهم وهم نيام!.
اضافةتعليق
التعليقات