قضیت حیاةً بأكملها في برزخ بين ما أضمر وما اُظهر.. بين سري وعلانيتي.. انهيت سنين حياتي في جحيم اصطنعته بنفسي بحثاً عن مستقبل مشرق لا يجاريني فيه أحد ولا يبلغني بشر.. هناك علو واستعلاء مخبأ في أعماقي يدعوني إلی مزيد من الشموخ.. أسندني في بلوغ خطبي ذكائي الغالب وفطنتي إذ بهما تمكنت القضاء على المنافسين لي.
حب الجاه أعمى بصري وبصيرتي وكنت لا أروم ولا أقتنع إلا بانقياد الأمة بأجمعها لي ولجبروتي. القليل لا يقنعني.. نصيبي من حكومة شطرها والدي فيما بيني وبين أخي (أمين) ليس بقليل.. إلا أنني أطمح في المزيد.. بل في الجميع.. علاقة الأخوّة لم تمنعني منافسته في السلطان وها أنا أنظر إلى رأسه المنصوب عند الباب الأمامي لقصري، ويبهجني بصق الناس على محيا ذلك الوجه الجميل.
إلا أنَّ القضاء على أخ عديم الفطنة والذكاء، غير متحلٍ برؤية استراتيجية والذي لخص حياته كلها بين نثيله ومعتلفه راتعا في مال الله ليس بالأمر الصعب.
هناك ما يخيفني ويرعبني أكثر من شقيق تم محوه من ساحة المنافسة بسهولة..
إنَّه رجلٌ من بني هاشم.. لا يطمع في الملك ولا يروم القبض على الحكم.. إلا أنٍ وَلَه الناس به يصيبني بالجنون.. شَغَفهم به يُرعبني.. ورعه وتقواه يبعثان القلق فيَّ.. اجماع الناس على ولائه يثير في كوامني نوازع الحسد.. لا أستطيع أن أراه وهو يحظى بهذا الحب في قلوب محبيه ومواليه.. قد ملكتُ رقاب الناس بقوتي، أما هو فقد شق قلوب الناس واستولى على عواطفهم.. وهذا ما لا أطيقه.
إنه لمن الصعب جداً أن تظهر الولاء لأحد تكن له أشد البغض، وأن يرتسم على ملامحك محض إخلاص لمن تضمر له حقدا عميقا توارثته جیلاً عن جیل وأباً عن أب.
سهرت ليالي طويلة، قضيت ساعات متمادية باحثاً عن حلول وأساليب أُسقطه من أعين الناس وأزلزل مكانته في القلوب لأجد بلسماً لقلبي الذي يشتعل غيظاً وغضباً وحقداَ وحسداً.. عليَّ أن أبحث عما يخمد هذا الولاء ويطفئ هذا الحب.. إلا أن خططي كلها باءت بفشلٍ ذريعٍ وانقلبت مؤامراتي كلها لتزيده في المجتمع مكانة وتلهفاً وتزيدني كراهيةً وتغيظاً.
انقطعت عني حبالٌ علقت عليها آمالاً كثيرةً وصرت أتشبث بآخر مخططاتي لإسقاطه.
آه هذا هو الحل الأمثل.. كيف لم يخطر مثل هذا ببالي من قبل؟ علي أن أستدعي كبير السحرة وأستميله ليجعل من (علي) مضحكة على مرأى ومسمع من أعين الناس.
إنه وإن كان عالماً بالكتب السماوية إلا أنه لا يمتلك السحر لأنه محرم في شريعته.. نعم هذا هو الحل.
تمتد الأضواء على حافتي ساحة القصر الكبيرة، أشجار كثيفة الأغصان تطل على ضفاف نهر كبير يبتلع انعكاسات الأضواء البراقة.. مباهج نسيم المساء تختلط برائحة الياسمين والبخور.
حبستُ أنفاسي.. هنالك الكثير ممن دعوتهم إلى هذه الوليمة. لابد أن يكون ذلك في ملأ من الناس، لابد أن أشفي غيظي من هذا الذي أجّج نيراناً ملتهبةً في قلبي.. كبير السحرة انقاد لأمري وها هو قد تهيأ لينال من مكانة عليٍ (عليه السلام) مستعيناً بسحره وقواه اللاوارئية..
الزمان ينقضي ببطء وقد حان موعد دخول الرضا (عليه السلام) إلى القصر.. اختطفتُ أنفاسي وبدأت أختلس النظر إلى وجه أمير السحرة راجياً أن لا يخيب ظني ويفعل ما أمرته به.. هاج بي الغضب حين رأيت ملامح وجهه تتغير.. انخطف لونه.. اصفر وجهه.. ارتسمت على ملامحه علائم الدهشة والإستغراب.. بدأ يحلق في الأجواء وكأن هناك أمورا غامضة خفية أثارت فيه الذهول.. جبروته بدأ يذوب وكلما اقترب ابن موسى أكثر، ازدادت فيه دلائل الإندهاش والتواضع والإستكانة.
خطى علي (عليه السلام) خطواته بسكينة متجهاً إلى منصة القصر وكلما اقترب ازداد الساحر ارتباكاً لما رأى من مهابة الإمام وجلالة قدره.. وما إن وصل إلى المكان المخصص له حتى تقدم الساحر، ألقى بنفسه على رجليه المباركتين وأخذ يبكي ويتضرع ويطلب حاجاته.. وظل ينتحب ويدعو لفترة من الزمان.. السكوت خيَّم على الحضور وکأن على رؤوسهم الطير.. الناس بين محب موال مبتهج بهذا المنظر وحاقد حاسد امتلأ حسداً وغيظاً.. اخذت نيران الندم تلتهبُ نفسي كلها.. كيف يمكن لهذا أن يحدث؟ كيف يمكن لساحر لا يؤمن بالله ولا يعرف له خليفة ولا رسولاً أن يفترش ذاته تواضعاً لإمام الإنس والجان؟.
بادرتُ بإنهاء المجلس وتشتيت ذلك الجمع وتفريق ذلك الحشد، ثم التفتُّ إليه معاتباً: كيف تجرأت أن تقوم بعمل كهذا أمام كل هذا الجمع الغفير؟ لم يكن هذا ما طلبته منك واستدعيتك لأجله!.
عذرك يا امير المؤمنين! إن عينيك خفي عليها ما بدا وظهر لي.. فما إن اقترب عليٌّ من بوابة القصر حتى رأيت البوابة تسجد إجلالاٌ لشأنه.. وحين دخل رأيت روح قصرك هذا سجد له.. رأيت روح الأشجار وروح الماء وأرواح كل من هنا سجدت لعلو مكانته وعظيم شأنه، وحين دنا مني رأيت روحي ساجدا له، حينها عرفت أنه ليس إلا خليفة الله فأسرعت بإلقاء نفسي على أقدامه المباركة داعياً إياه أن يقضي حوائجي ملتمساُ منه أن يتفضل عليَّ بسؤلي..
اضافةتعليق
التعليقات