ارتجلت لحظة الصمت عند ماضي يفسّر ما حلَّ بهِ في الحاضر، وقفت الأرض عن الدوران، دقيقة صمت أسكتت حتى الهواء، دمعة أخذت تواصل مسيرها على خدّيه وهي تحمل في داخلها ألماً جميلا، كانوا قلّة من نالوا شرف هذا الألم الذي لا يأتي عن جرحٍ أو همٍّ..
احتضنت الأرض بين ذراعيها تلك الدمعة؛ فأنبتت بساتينَ الحبِ والإيمانْ، رصاصةُ غدرٍ أعادت عجلة الزمن الى ذلك اليوم حين كان في السابعةِ من عمره، أيقظهُ حلم كان الأسوأ بالنسبة له، خنجرٌ بيدٍ سوداء غُرِزَ في ظهره، لم يشاهد صاحبه، كان فزِعاً مرعوباً، لازمته الدهشة لبرهة! ما هذا الحلم؟، قام مسرعاً الى أمّه يتعثر بغطائه من شدة خوفه، فتح الباب، وارتمى باكياً بين ذراعيها الدافئتين، بكى طويلاً ، كان ذاك الحلم ثقيلاً على قلبه.
بعد ان هدأ روى لأمه ما عايشه في هذه الليلة، نظرت إليه فابتسمت، ووضعت يديها على موضع الخنجر وأخذت تهمس في أذنيه:
- ردد يا سيد حبيب ورائي:
احضريني يا أمي الزهراء وخففي عني، هدأ سيد حبيب بعد سماعه هذه الجملة وكأنَّ الأمان كان يختبئُ بين حروفها، نظر نظرة تساؤل،
من تلك المرأة يا أمي؟ كان هذا السؤال الذي تحمله نظراته، لم تتركه أمه جاهلاً، ارادت إجابته بجواب يصعب نسيانه؛ فقالت له:
هي حوريّة سماويّة جعلها الله سبحانه وتعالى سيدة نساء هذه الأرض لتكون لنا مثالاً نقتدي به، نلجأ اليها متى ضاقت بِنَا الدنيا؛ فهي الوسيلة العظمى بيننا وبين خالقنا.
: - وهل ستأتي عندما أريدها؟ كان رد "سيد حبيب"، أجابته
-ستأتي اذا كنت صالحاً، وإذا آمنت انها ستأتي، تحوّل ذعره الى بهجة جابت تعابير وجهه البريء، وضعها هدفاً له في كل أعماله، كان كلما يتكرر هذا الحلم يفرح لأنه يناديها مشتاقاً ومتلهفاً لرؤيتها..
بعد أعوام طويلة وسريعة المضي كبر سيد حبيب، وقد كافحت والدته لترتقي به الى أسمى درجات العبادة والعلم، وأن يحذو حذوَ أبيه الذي نالَ شرف الشهادة مِن أجل العقيدة..
كان حلم سيد حبيب بلقاء جدته الزهراء التي ستكون احنُّ عليه من أمه يكبر معه، يسأل نفسه سؤالاً دائماً: (ما هذهِ اللحظة الملكوتية التي سوف تستدعي قدومها؟ ) لم يكن يدرك انها سوف تكون لحظة عطاء الهي، لحظة تجرُّد النفس من الآثام الدنيوية.
تابع سيد حبيب حياته المليئة بالشوق الفاطمي، وفي يوم متجهّم القسمات، عابس الأسارير، أعاد زمن المغول الذين لا يعرفون سوى لغة القتل والدماء، استعرت لدخولهم الحميّة في قلوب رجال هذه الأرض، ذُهل الناس وأغرقتهم بحور الحيرة، وهنا جاء الصوت الفاصل الذي أراح كُلَّ الخائفين، علا الصوت المبارك الذي حدّد شكل المسيرة، وطبيعة المقاومة، الصوت الذي دعا للانتفاض والذود بالأرواح عن تراب الوطن، انه الجهاد الراقي دفاعاً عن وسائل السماء وملوك الأرض.
في ذلك اليوم انتفضت مشاعر الشوق في صدر سيد حبيب، لم يكن يعلم لماذا زاد الشوق عندما سمع النداء أ يُعقل أن يكون هنالك ارتباط بين اللقاء المرتقب و الجهاد؟
صَلَّى ركعتين طالباً التوفيق من الله، اتته أمه بوشاح أبيه الأخضر وقالت له:
-قم يا ولدي فلقد قرب موعد اللقاء، البستهُ لامةَ جهاده وهمست في أذنه للمرة الأخيرة:
يا بني واسي السيدة الزهراء بأعز ما لديها بابنها الحسين (عليه السلام). )
تبسّم سيد حبيب؛ فلقد أعطته أمه المفتاح الأول لدخول روضة العشق الأبدي، خرج واضعاً وصية والدته نصب عينيه يتذكرها كلما اشتم وشاح أبيه الذي كان عطر الشهامة يفوح من خيوطه الخضراء..
ركب السيارة متوجهاً نحو ساحات القتال، وضع يده على صدره مرسلاً سلامه إلى مولاه الحسين ( عليه السلام )، تحسّس جيبه فوجد فيه تربة الحسين؛ لم تشأ أمه أن يغفل للحظة عن هدفه وهو الدفاع عن مرقد ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي احتضنته هذه الأرض.
توقف الركب في سامراء معلناً بدء المعركة من هذه المنطقة، تحشرجتِ الأنفاس، وتهيأت الأرواح للفداء، يوماً بعد يوم، وأسابيع تتلو أسابيع، خاضوا خلالها معارك طاحنة، تَرَكُوا في كل معركة ورود تفوح برائحة النصر خلّدت ذكرى هذه المعركة الهوجاء.
كان سيد حبيب يتمنى أن يكون التالي بعد كل شهيد يسقط؛ فكل قطرة دم تسقي الثرى كانت تصقل عزيمته فتتهيأ روحه لتسمو نحو الملكوت، لم يغفل عن والدته الحنون فقد كان يراسلها بعد كل معركة يخوضها، ويلتمس منها الدعاء بسرعة اللقاء فقد نفد صبره، وعذّب شوق السنين الطوال فؤاده..
مضت أيام وسيد حبيب ما زال ينتظر حتى جاء يوم الجمعة، وبعد صلاة الفجر اندلعت معركة من أقوى المعارك التي خاضوها، قاتلوا بكل ما في قلوبهم من قوة و إيمان، كان شوقهم لتذوّق الشهادة هو الذي يحرك أعضاءهم، قاتل سيد حبيب ورفاقه مقاتلة المستثار من وقع الأسى الذي حلّ به، تحركت فيهم الحمية؛ فاخذوا يتقدمون تاركين اخوتهم خلفهم، غافلهم الأعداء فحاصروهم، لم يكونوا سوى سبعة، وقد نفدت ذخيرتهم لكنهم لم يستسلموا، قاتلوا حتى بالحجارة و قتلوا منهم العشرات، حاولوا الرجوع الى مجموعتهم، فلم يكن أمامهم سوى جسر تداعت أخشابه، انحنوا حتى لا يراهم العدو، حاولوا الزحف بسرعة فاذا شاب منهم قد أصيب في منتصف الجسر؛ احتاروا في أمرهم فإذا عادوا أدراجهم لن ينجوا من أيدي الأعداء، ولا يستطيعون ترك أخيهم، في هذه اللحظة قرر سيد حبيب الرجوع إليه بسرعة أنسته الأخطار، حمله على ظهره، لم يكد يكمل الجسر حتى وجدت رصاصة الغدر سبيلها إليه وهنا صمت العالم، لم يعد يرى أحداً أمامه، تلألأ الكون ونزلت شعوب السماء إلى الأرض كانت أنفاسه المتحشرجة تشوّش الرؤية أمامه، شهق شهقة الوداع ولكن فجأة عّم نورٌ طغى على انوار الملائكة، اطمأن العاشق بأنه لم يغادر الدنيا من دون رؤيتها، جلست سيدة النساء أمامه، قال لها سيد حبيب:
طال الانتظار يا مولاتي! -
أخذت السيدة البتول تمسح على موضع الجرح، في هذه اللحظة عاد الزمن به الى تلك الليلة وإلى ذلك الحلم عرف تأويله وتذكر، وعد أمه ووصيتها له؛ كان قدره الشهادة ولقد نُبِّأ بذلك.
أخذت روحه تفيض شيئاً فشيئاً ترك الجسد مرمياً على الرمضاء، حلّق مع ملائكة الرحمن نحو الخلود السرمدي..
اضافةتعليق
التعليقات