كثيرًا ما نسمع ونرى في مواقع التواصل الاجتماعي آيتين يُفهم من ظاهر بعض الناس أنهما متعارضتان. الآية الأولى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)
والآية الثانية: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
نلاحظ أن البعض ممن يبرر أهواءه وفساد المجتمع، يستخدم الآية الأولى كثيرًا، فيقول دائمًا عند نقد تصرّف أو سلوك مخالف للدين: "لا إكراه في الدين".
أما من يريد فرض الدين الشكلي كالحجاب وبعض المحرّمات الواضحة، فيستخدم الآية الثانية: "يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر". وكلا الاستخدامين خاطئ؛ فالدين الإسلامي لا يعارض بعضه بعضًا، ولو وُجد التناقض لبطلت ربوبية الخالق، وبطل وجوده؛ إذ لا يُعقل أن يخلق العالم بدقة متناهية ثم يُخطئ في وضع القوانين والتشريعات.
والحقيقة أن الناس تختار من الدين ما يبرر أفعالها، فالمجرم والمتطرف يبرر أفعاله بآيات مثل:
(فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ)،
و**(وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ)**،
بينما يتجاهلون قول الله تعالى:
(وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ).
فلو تبنينا مفهومهم، فإن القرآن الكريم سيبدو وكأنه يعارض بعضه بعضًا. لذا، من المهم جدًا أن نرى الدين كما أوضح الله وأمر، وليس كما يشتهي الفقيه الذي يُطبّل ويُغيّر الآيات حسب أهواء الحُكّام. ولو رأينا الإسلام وقصصه من منظور القرآن وسيرة الأنبياء، لسقط كثير من الجهل والتدليس. أولها: أن الفتوحات الإسلامية لم تكن إسلامية ولا شرعية، لأن الأنبياء اكتفوا بالدعوة والإصلاح، ولم يُجبروا الناس على الدخول في الدين، بل على العكس، فقد عاش بعض من عاصر الأنبياء من الكفار ضمن المجتمع، وكان لهم الحق في العيش بكرامة.
فرسول الله لم يُجبر أحدًا على دخول الإسلام، وكان هناك المسيحيون واليهود، أما من نشر الفكر المنحرف، فهم بنو أمية بعد إسلامهم، وبعض من أسلم طمعًا بتغيير وضعه، لأن العرب قديمًا وقريش لم تكن تسمح بسيادة الجميع، بل كانت محصورة بفئة معينة من الفاسدين.
أما من ساد من بني هاشم كأبي طالب وعبد المطلب، فكان لأنهم اتبعوا ملة إبراهيم، فلم يكونوا موحّدين فقط، بل كانت لديهم تربية نفسية صحيحة، فعُرفوا بالشجاعة والأصالة والنبل، على عكس زعماء قريش الذين عُرفوا بالخمر والرقص والزنا، لدرجة أن عبيد الله بن زياد لم يكن جده معروفًا لانعدام قيم الشرف والإنسانية لديهم. وكذلك هند، التي كانت تُخالط الرجال وتقضي وقتها معهم، على عكس السيدة خديجة التي تميّزت بعقلها التجاري ونُبلها، رغم أنها من نفس البيئة.
ولو تعمّقنا قليلاً في التاريخ، لوجدنا أن معاوية لم يؤمن قط. فقد حارب الرسول والدعوة لعشرين سنة، وحتى بعد إسلامه، كان إسلامه بعد الهزيمة النكراء لقريش. ثم انشغل بحروب التحرر التي تميزت بتصفية الشعوب الأصلية للأراضي المسيطر عليها كالعراق.
وفي عهد علي بن أبي طالب، الذي حكم حوالي أربع سنوات دون أي حروب خارجية، قامت بعده حركات الجمل وصفين خلال سنة واحدة فقط. فمتى تاب معاوية؟ بعد أن حارب الحسن بن علي وأخذ الحكم؟
وهذه إحدى الطرق الواضحة للتلاعب بالدين والقيم حسب القرآن الكريم، حيث يتم خداع الناس التي تُقدّس أهواءها بآيات تُشابه فكرهم، ويتم تغيير آيات أخرى، وكأن آيات القرآن تختلف بأهميتها، وليست دستورًا واحدًا تتضح معالمه بعد قراءته كلّه.
فإن استطعت فهم القرآن الكريم دون أن تجد فيه تعارضًا، فقد فهمته حقًا. وهنا نعود إلى الفرق بين الآيتين:
فعندما نكمل الآية الأولى:
(لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ، فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)،
نلاحظ أن الشخص قد عُرض عليه الدين بوضوح، لكنه اختار الكفر، وهنا لا يحق لأحد أن يُجبره على أحكام دينه، وإن كانت صحيحة. ولكن، في الوقت ذاته، لا يحق له إفساد المجتمع أو عرقلته.
أما الآية الثانية، فهي لمن آمن بالدين. فقد ذكر الله أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مخصوص بفئة معينة، وعند الاستمرار في القراءة نلاحظ أنه يكون بشروط:
بالحكمة والموعظة الحسنة
التزام الشخص الديني والسلوكي (حُسن السيرة)
إقامة الصلاة
إيتاء الزكاة
المسارعة في عمل الخير
هؤلاء فقط من يحق لهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولو سألنا: "لماذا؟ أليس في ذلك تضييق على الناس؟"
فالجواب: لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليست فريضة عادية يقول بها الجميع، بل هي خاصة بمن فهم دينه وأتقنه، ولم يعارض آيات القرآن الكريم.
نجد البعض حين نتكلم عن مشاكلنا أو عن شخص أساء لنا، يقولون إنها "غيبة"، بينما القرآن الكريم قال:
(لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا).
وهنا استثناء؛ لأن الظالم إن تم تحليل سلوكه وفضحه، لن يستطيع تزييف الحقائق مرة أخرى أو ادّعاء البراءة. ومن المهم أن يعرف الناس أن السلوك السيئ وأذية الآخرين ليست نزوة أو جهلًا، بل أمر مدروس ومُتعمّد.
فهي ليست زلة لسان، بل حديث كامل وسيناريو تم التخطيط له. وعندما يتوقف الشخص عن التخطيط ويتصرف بعفوية، فذلك لأنه درّب نفسه على السلوك الخاطئ حتى أصبح عادة تلقائية لديه. وهذا هو عمى البصيرة والختم على القلب.
لتقريب الصورة، نضرب مثالًا:
عندما كنّا أطفالًا كنا نخاف النار لأنها تحرق، لأن الطفل يستخدم حواسه معها، لكن مع مرور الوقت تعلّمنا كيف نتعامل معها. الآن نحن لا نفكر قبل استخدامها، بل نتعامل معها بعفوية لأننا اعتدنا عليها.
وكذلك اللغة؛ فالمبتدئ يخطئ في نطق الكلمات، أما المتمرس فيعرف ما يقول فورًا.
وهذا هو الفرق بين من يبتدئ في الذنوب، ومن اعتاد عليها.
الغيبة المحرّمة هي تعمّد تشويه صورة شخص أو التطرّق لمواضيع لا يحق التحدث عنها، أما "إلّا من ظلم" فهي مواقف نحتاج فيها الحديث:
عندما ترى أن شخصًا يُخطط للإضرار بشخص آخر.
بعض الأشخاص لا يتوقفون عن سلوكهم السيئ إلا إن علم الناس به.
عندما تحتاج إلى نصيحة أو حل، ويكون ذلك مع مختص نفسي أو شخص حكيم أمين، فالكلام أحيانًا جزء من الحل.
من هو المستمع الجيد؟
من لا يُفشي ما قُلت (أمانة).
لا يُحمّلك ذنب ما حصل.
يتمتع بالحكمة، فيواسيك أو يُوجّهك.
يُخفف من وطأة المشكلة، لا يزيد همّك.
لديه ورع، فلا تراه يظلم أو يُسيء.
لو تعاملنا بهذه القيم، سنتجنب كثيرًا من الذنوب وسوء الفهم والسلوك.
اضافةتعليق
التعليقات