عندما نقلّم المرايا ترى الشمس عجوز؛ لعلّ لها موعد مع نبات الظل..
سوف اكتب بشلال رأسه الحب ووسطه الرجاء وقاعه محاولة لجوء، نعم تغيرت ملامح الغيوم بعد هذه الأعوام التي تلاشت بين حانة الورد وحانة البعد، شربت الفراق مراراً وتكرارا وكان أكثرهم حشرجة في صدري فراق أمي، تلك البيضاء الناعمة البريئة كالصمت، والهادئة كالطقس، عند الغروب في آواخر تموز وبداية آب كلّما أبتسمت أمامي قلت: سبحان الذي جمع اشعة الشمس في الماء في ثغر واحد وإبتسامة واحدة، عفوية إلى حدّ التوكل، مؤمنة كالغريق وسط البحر وله أمل، صادقة كمرايا العروس، كنت احب حديثها وكنت اسألها كثيرا وأنا صغير... سألتها ذات يوم عن معنى أسمي قالت: "بُني سمّيتك بهذا الإسم حبّا لأهل البيت عليهم السلام".
فسألتها مرة أخرى وكان عمري آنذاك عشرة أعوام، أماه من هو الإمام السجاد؟ فأجابت إجابة متواضعة وقالت: هو علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب.
كررت سؤالي هذا وأنا في سن الثامنة عشر، قالت: يا بُني علي بن الحسين"عليه السلام" هو دستور الحياة، وربيع العبادة، وعطر التسبيح، تغزو الليل صلاته، ويلُفّ النهار في قضاء الحوائج ومساعدة المحتاجين، له رسالة في الحقوق هي مفتاح التنمية البشرية، وله أدعية في التهجد والتذلل والإستغفار بلاغتها فوق الإبداع، وترافتها بنكهة الإحساس.
توقفت امي عن الكلام وبكت! سألتها ما الخطب يا أمي؟ أجابت والدمع يملئ عيونها البراقة كاللؤلؤ، قالت: يا ولدي الله الله في الصحيفة السجادية إنها والله ألذ ما كتب على الورق بعد كتاب الله.. قلت لها: لماذا جرت دموعك؟ قالت: قلبي كان يقرأ أحد أدعية الإمام السجاد "عليه السلام" فبكيت خوفا وحناناً.
قلت لها: أماه اقرأي لي دعاء قلبك!
قالت: لقد كان قلبي يقول: "إلهي وَسيدي وعزّتك وجلالك لئن طالبتني بذنوبي لأطالبنّك بعفوك ولئن طالبتني بلُؤمي لأطالبنّك بكرمك ولئن أدخلتني النّار لأخبرنّ أهل النّار بحبّي لك. "لقد أعجبني المقطع كثيرا يا امي لاسيما المقطع الاخير" لأخبرن اهل النار بحبي لك" يا أماه! ما أجمل هذا الغرام والولع والهيام في الله سبحانه.
عندما غزل العمر ثلاثون عاما ركبت أمي بقارب الراحة الأزلية وبشراع لا يريد العودة.. طوال هذه المدة التي كانت امي فيها كالعطشان الذي يشرب من الماء المالح يشرب لكن لا يرتوي هذا هو حال امي في العبادة.
أما أنا فكنت بين الدراسة والعمل.. ذات يوم وأنا في السيارة وكان سائق يستمع إلى محاضرة دينية وكان الخطيب يتحدث عن الأسماء ودورها في الشخصية سمعته يقول: "بما أن اسمي هادي، دائما اقرء عن سيرة الإمام علي الهادي عليه السلام حتى أمثل صفاته وأخلاقه ولو بالشيء اليسير".
بالرغم من السراب الذي يراود صحراء روحي، لكنّي على أمل أن البئر المعطل في صدري سوف ينبض بالماء!.
عندما طلبت من صديقي ميثم _ كان يحب القراءة كثيرا - أن يعطيني كتابا يتحدث عن الامام السجاد عليه السلام، لقد لوّن الفرح ملامحه السمراء إلى موسم التفاح الاخضر بسبب طلبي هذا.
وقال: اهلا وسهلا بك يا عزيزي سجاد وبعودتك الى عالم المطالعة، سوف أعطيك كتب ذكر فيها سيرة الإمام السجاد عليه السلام أهمها موسوعة سيرة أهل البيت عليهم السلام/ جزء السادس عشر وكتاب الأمالي، وكتاب الملهوف، والمناقب. هل هذه الكتب تكفي يا سجاد؟.
_ نعم يا ميثم هذه تكفي وعندما احتاج سوف أخبرك.
_ أخبرني يا سجاد ما الامر.
_ يا صاحبي ميثم احببت ان أطلع على صفات ومحامد من احمل أسمه علنّي اكون فانوسا لروحي.
_ إنها فكرة جميلة، أنا أيضا سوف اطلع على خصال ميثم التمار.
_ اتمنى لك التوفيق يا ميثم.
_ وأنا أيضا اتمنى لك الفلاح يا سجاد.
عندما ودعت ميثم والكتب بين راحتيّ، شعرت بأن هذه الكتب سوف تحرر تلك الطفولة في مهجتي من قفص الملل والروتين الخالي من نوافذ البشاشة والغيث.
بعد المطالعة والقراءة رأيت تلك العظمة والفضيلة والتقوى التي تكمن في طيات حشاشته المغروسة في دمه، إذ قال الله تعالى عنه في حديث قدسي: "هو سيّد العابدين وزين أوليائي الماضين" ماذا أقول بعد! وهو منذ صغره ينسج خيوط الوصال بينه وبين ربه، والحنين الى المعبود يهرس قلبه، عندما سأله إبراهيم بن أدهم _ في السفر و وكان وحده "عليه السلام"
وعمره صغير: مع من قطعت البرّ؟
_ قال عليه الصلاه والسلام: مع الباري.
_ قال إبراهيم: أين الزاد والراحلة؟
_قال عليه السلام: زادي تقواي، وراحلتي رجلاي، وقصدي مولاي.
_ قال إبراهيم: ما ارى شيئا من الطعام معك؟
_فقال عليه السلام: يا شيخ، هل يستحسن أن يدعوك إنسان إلى دعوة، فتحمل من بيتك الطعام؟
_ قلت:لا.
_ قال: الّذي دعاني إلى بيته هو يطعمني ويسقيني.
لقد صدق والله من قال: (كأنّه العبادة تمشي على قدمين!).
إنه بالفعل كما قالت أمي: ربيع العبادة.
رحمكِ الله يا أمي كنتِ دائماً تقرأين مناجاته الخمسة عشر التي هي مخزن العشق والشوق والإحساس، وبالفعل كل حرف من حروفها صياد ماهر يمنحنك غيوم الخشية والحب وكأن روحك تعانق الجنة ونور الله حول قلبك يدور كرحى أمي!.
عندما قرأت دعاءه الذي علمه لأبي حمزة الثمالي شعرت أن مزايا شتاء تلبثت في داخلي أرجف من الخوف، وأبتسم للمطر الذي يغبش مقلتي، وكل أمنياتي أن يغسل هذا الشتاء زنجار قلبي من الذنوب..
وجدت من أنا سميه، جسر الأمل لمن غرق بالذنوب، بركة النور لمن أطفأت شمعته، ورصيد الجنان لمن أراد الفلاح.
ترك لكل البشرية رسالة الحقوق وهي قانون الحياة فيها خمسون حق، حق الأم وحق الزوج وحق الجار... كل هذه الحقوق هي مفاتيح إلى التنمية البشرية التي ينادي بها الجميع، وهو يرشد فيها الناس إلى حياة تبتلع المنكر وتظهر المعروف.
حياة فصيلة دمها الحب والاحترام. حياة ملامحها خدود عذراء. حياة عاقر لا تلد الحزن والشقاء حياة حبلى بالعطاء. حياة كفجر البلابل والورد تلوح بالنقاء.
لقد اختصر القانون برسالة! والأخلاق بدعاء! والصبر بعين حمراء، والإيمان بالتهجد.
_ سجاد كنت أقرأ أبيات الفرزدق بصوت معتدل في داري:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
والبيت يعرفه والحِلّ والحرم
هذا ابن فاطمة إن كنت تجهله
بجده أنبياء الله قد ختموا.
إذا بصديقي ميثم خلف الباب يسمعني فدخل عندي وقال: يا سجاد ما أجمل نصيحة الشيخ وجدت في ميثم العجائب وهو ليس بمعصوم، أنت ماذا تعلمت من سيدي ومولاي زين العابدين عليه السلام.
والله يا ميثم تعلمت وتعلمت وما زلت في ظمأ الى معرفته أكثر، لقد غير طراز أفكاري، لقد أصبح لكل شيء في داخلي.
_ الحمد لله يا سجاد.
_ الحمد لله يا ميثم.
اضافةتعليق
التعليقات