إن الروتين اليومي يحوّل الإنسان لآلةٍ تكرر أفعالها بشكل مستمر دون وعيٍ أو إدراك لما يؤول إليه هذا التكرار المتواصل؛ إذ يبلغُ الإنسان مراحلًا من الإنغماس في هذا الاعتياد حتى يكاد لا يعرفُ نمط حياة آخر غير ما دأب عليه كل يوم ولا يعرف حياةً أخرى غير تلك التي تبرمج عليها عقله وألفتها نفسه.
يأتي شهرُ رمضان في كل عام ليكسر تلك النمطية الخانقة التي تغلغلت لكل زاوية من زوايا حياتنا، ليُخبرنا أننا نستطيع أن نغير ونتغير. خرجتُ في أول نهار رمضان وأنا في طريقي للعمل، أدهشني الهدوء الذي كان يُغلف كل شيء، سيارات لا تسمع لها صوتاً، لا أبواق تصدح ولا سائقون غاضبون يُكيلون لك الشتائم.. بدا كل شيء ساكناً، حتى الزملاء في العمل، وأصحاب المحال التجارية والناس في الشارع، كُلٌ له شأنٌ يسير إليه ويريد أن يحافظ على طاقته.. قلتُ في نفسي إذاً نحنُ نقدر! ما دام الأمرُ يتحول لهذا الحال في ثلاثين يوم من السنة، إذاً نحنُ نقدر أن نجعله كذلك لبضعة أشهر أخرى وربما للسنة بطولها.
يقول الإمام الصادق (عليه السلام): "ولا تجعل يوم صيامك كيوم فطرك". إذ إن الصيام يُطهرك من كل ما لا يليق بهذا الطقس المقدس، وهو بهذا يُعلمك أن تُحسن من خُلقك وعاداتك حتى بعد انقضاء الشهر الكريم. إنها ليست أيام معدودات تُجبرنا على نهجٍ معين نسير عليه على مضض كأننا في حرمانٍ من الملذات الدنيوية التي تُسعدنا، بل هو نقطةٌ سنوية قد تخلق فينا نقطة تحول عظيمة لو قدرنا على السعي لهذا التحول والتأمل فيه، نقطةٌ تحدد لنا ولادة جديدة لا قبل لنا بها، تُنتج منا روحاً داخل الروح، روحٌ تعرفُ هدف عيشها وفحوى وجودها.
إنها حالة مستدامة من الوعي، الوعي بشكل لحظي ومستمر بإنه لولا هذه الفرصة لما وعينا على انغماسنا في الدُنيا، لما عرفنا حدود النفس ولغرقنا في المغالاة بالتنافس في الأكل والشرب والملبس والماديات التي تحجبُ القلب عن نور الآخرة، ليتعلم المرء كيف يكون سيد نفسه، متى يمنع ومتى يسمح، متى ينجرف ومتى يُنقذ ويُخلّص هذا الجسد وهذه الروح من غواية زمنٍ كُل شيء فيه يراود الإنسان عن نفسه فيه، ويهيء له عرش السيادة ويُريه بإمرأة العزيز، إنه شهرٌ يُعلمك متى تقول ما عاذ الله وتتريث قبل أن تُسجن في دهاليز الملذات الوقتية التي لا تجرك إلا لما لا ينفعك.
اضافةتعليق
التعليقات