تخرّجتُ من الجامعة وقلبي مُحمّلٌ بالأحلام، كانت تطلعاتي بسيطة لكنها عميقة، كضوء النجمة التي تلمع في ظلمة السماء. أردتُ أن أكون معيداً، أن أعتلي منصّة المحاضرات، وألتقي بعيون الطلاب الشغوفة، أزرع فيهم حبّ المعرفة، وأساهم في تشكيل مستقبلهم. كنتُ أرى في نفسي امتداداً لأستاذي المُلهم، الذي لم يقتصر دوره على التدريس بل كان شعلة تُنير كل من يقترب منها.
ولكن، كما هي عادة الحياة ، جاءت الرياح بما لم تشته السفن. عاماً كاملاً قضيته أطرق أبواب الجامعة، أدور في حلقات مفرغة من الرفض والتردد، وأرفض في الوقت نفسه كل فرصة بدت بعيدة عن الحلم الذي رسمته. شعرتُ كمن ينبتُ في أرض قاحلة، مُصرٌّ على أن يزهر رغم القسوة، بينما الأيام تنسلّ من بين يديه كحبات الرمل.
ثم جاء اليوم الذي رنّ فيه الهاتف، يعلن عن فرصة عمل بعيدة كل البعد عن تطلعاتي الأكاديمية. ارتبكتُ، شعرتُ بأنني في مواجهة طريق جديد لا أعرف عنه شيئاً. أردتُ إقناع نفسي بأن الأمل لا يزال هنا، فقمتُ بأمر طفولي؛ لجأتُ إلى القرعة. كرّرتها أربع مرات، كأنني أتوسل الحظ ليحملني إلى الجامعة، لكن في كل مرة، كانت النتيجة تتكرر وكأن القدر يُمعن في توجيهي بعيداً عن ذلك الطريق. أدركت حينها أن هناك رسالة عليّ استيعابها: ما أظنه نصيبي قد لا يكون قدري.
لذا ذهبت لمقابلة العمل، وبينما كنتُ أجيب على الأسئلة، شعرت بشيءٍ غريب، كأنني أستعيد جزءاً من روحي كنتُ أظنّه مفقوداً. الكلمات كانت تخرج من فمي بانسيابية لم أعتدها، كأن الحياة تُغني من خلالي. على النقيض تماماً، جاءت مقابلة الجامعة في يومٍ كنتُ فيه محاصراً بالضغوط. كل شيء بدا ضبابياً، وكأن الحلم الذي طاردته بدأ ينزلق من بين أصابعي. وعندما جاء الردّ بالرفض، لم أشعر بالحزن كما توقعت، بل شعرت بتحرّر لم أعرفه من قبل، كأنني تخلصت من سلاسل كانت تربطني، واستعدت نفسي الحقيقية.
في تلك اللحظة، اكتشفتُ حقيقة لم أكن أراها: أحياناً، السعادة تأتي من الأبواب التي لم نفكر حتى في طرقها. ليس هناك شيءٌ يدعونا لنُصرّ على طريقٍ واحد، حين تكون الحياة مملوءة بمسارات لا نهاية لها. نعم، لم أتخلَّ عن فكرة العودة إلى الجامعة، لكنني أدركت أنني قد أعود يوماً ما ليس كمعيدٍ مبتدئ، بل كأستاذ يحمل تجاربه وإخفاقاته وانتصاراته ليُشاركها مع الأجيال الجديدة.
عزيزي القارئ، إذا شعرتَ يوماً بأنك تواجه الأبواب المغلقة، وأن الأقدار تعاندك، فتذكّر أن هذه ليست نهاية الطريق، بل دعوة خفية للبحث عن دروبٍ جديدة قد تُفضي بك إلى سعادة أكبر مما تخيّلت. لا تهاب الفشل، فهو ليس سوى بداية جديدة، ومن قلب الظلام يولد النور. دع قلبك يقودك، واسمح للحياة بأن تُريك مساراتٍ لم تخطر ببالك، ففي النهاية، هذه الرحلة هي ما يصنعك، والدروس التي تتعلّمها هي كنوز لا تُقدّر بثمن.
اضافةتعليق
التعليقات