قالوا عن السِّحر أنه يُعمي المسحور ويتملّكه، فيسير المسحورُ بغير عِلم ولا هدى ولا كتابٍ منير، وساحر زماننا بلا نِد هو مواقع التواصل الاجتماعي، تجعل مستخدميها كالدمى أمام الشاشة، لا تنفك أناملُهم ضاغطةً على الأيقونات ولوحة المفاتيح، ولا تبرح عيونُهم شاشاتِ الأجهزة الذكية، وهذا تماماً هو حال "عامر" أشهر مستخدمي "الفيس بوك".
كما تعلمون.. الحاسوب حاجة أساسية لطالب الثانوية، التقارير والأبحاث المكتوبة والمعروضة كلها تستلزم وجوده.
كان عامر يتشارك مع إخوته في حاسوب ثابت من النوع الذي لا يعمل إلا على الكهرباء أو كما يسمّونه اليوم "حاسوب الطيّبين"، طلب عامر من أبيه جهازاً شخصياً متنقلاً لأن القديم يقيّد حريّته أو لِنقل ما تقولُه نفسُه له: يخزيه أمام أقرانه وأصحابه !
لكن والده كان يجيبه بالرفض دائماً فما دام الموجود يعمل ويؤدي الغرض لا داعي للإسراف والبذخ - حسب تعبيره - .
- وأخيراً - وأطال مدّ الياء- بقيَت آخر فقرة من البحث.
- وفجأة تعالى صراخ عامر :
- لا !!! يا إلهي!! أبي.. أبي !
- وجاء الوالد فزعاً مهرولاً ..
- ماذا جرى؟! لمَ الصراخ؟!
- ساعاتٌ قضيتُها وأنا أكتب البحث والآن راح تعبي هباءً !
- لماذا؟
- نسيتُ أن أحفظ الملف وبسبب ضعف الكهرباء عندنا!! انطفأ الحاسوب !!!
- لا حول ولا قوة إلا بالله، لا بأس يا بني هذا ابتلاء من الله ليختبرك.
- يبدو أن كلمات أبيه زادت الطين بلة، زاد توتّره واشتد غضبه وراح يتأفأف بضجر :
- أرجوك أبي إلى هنا يكفي، أريد حاسوباً جديداً ومتنقلاً لو سمحت، من غير المعقول أن أضطر في كل مرة لمضاعفة جهدي بسبب هذا الجهاز الرديء العطِب !
- حسناً حبيبي عامر لا تغضب سأشتري لك كل ما تريد، اهدأ كل شيء قابل للتصليح.
- وفي غضب شديد، ترك عامر المكان وخرج .
- رغم كبر سن أبي عامر إلا أن شخصيته تصبح ضعيفة جداً حين يظهر السبع الذي في داخل ابنه أمامه! لكنه يقنع نفسه بأن هذه حكمة منه ليَكسَب ابنه!!
وتحقق المُنى وأصبح لعامر حاسوب حديث، صار يعتزل العائلة في غرفته كثيراً لينهي وظائفه، ومع مرور الأيام ومع قلة رقابة أبيه وأمه وقلة تطفل إخوته الصغار بدأ يتنقل بين المواقع والمنتديات، إلى أن أغرته كلمات الناس عن موقع "الفيس بوك" وقرر أن يخوض التجربة، سجّل فيه وبدأ مشواره الفيسبوكي من الصفر.
وكمبتدئ.. لم يكن لديه أصدقاء أو متابعون فيسبوكيّون غير أصدقاء المدرسة، يوماً يكتب "صباح الورد" وآخر "مساء الحرية" وبين هذه وتلك يكتب يومياته ومشاعره، حتى أدمن الفيس بوك وصار ينتهز الأوقات والفرص ليدخل ويضع بصمته، تعرّف على أصدقاء جدد وازداد متابعوه.
طبيعةُ الإنسان تدفعه للمزيد، خصوصاً في ميدان الشهرة، فلا وجود لمصطلح "الشبع"، تغيّر مسار عامر ليواكب متابعيه، فانتهج مسار الدين والنصيحة، حتى أنه عمد لشراء بعض الكتب الروائية ليستفيد من الأحاديث العترية في صفحته الفيسبوكية، كان مهتماً بجنون بكل ما يكثّر متابعيه، وبالفعل نجح في تكوين قاعدة جماهيرية ضخمة من مختلف الدول والأعمار.
وفي أحد الأيام اجتمع مع بعض أصدقائه الذين اكتسبهم في الموقع ..
عامر: أريد فكرة جديدة أفجّر بها صفحتي يا أصحاب، ماذا تقترحون؟
وائل: ابحث عن موضوع قريب من قلوبهم .
عامر: سبق وتكلمت عن عاشوراء وعن القضية الفاطمية، ماذا بعد؟
علي: الانتظار.
وائل: صحيح.. انتظار الفرج.
عامر: موضوع جميل، لكنني مللت طابع الصور والكلمات.
ميثم: أنا أقول لك. ادمج صوتاً حزيناً مع الصور، قصيدة في الانتظار مثلاً ..
قاطعه علي: أو مقاطع من دعاء الندبة .
عامر: أحسنتم. هل تقترحون أصواتاً معينة من القرّاء؟
باسم: سمعتُ بقارئ إيراني صوته حزين جداً نسيت اسمه.
وائل: محسن فرهمند؟
باسم: لا، محسن معروف وصوته متداول كثيراً. أظن في اسمه صادق أو صدقيان.
اندفع علي قائلاً: مهدي صدقي؟
باسم: نعم.. نعم، هذا هو. صدقني يا عامر صوته يبكي الحجر.
علي: بالفعل وعن تجربة.
عامر: إذن أتوكل على الله وأطبّق المشروع.
دمعت عيون الكثيرين، ارتفعت مئات الآلاف من الأيادي داعيةً بقول "آمين"، معلومات مهدوية جديدة، تغيّرت فئات شبابية من متابعيه إلى الأفضل. لقد فاق مشروع الانتظار كل التوقعات، عامر الذي يبكي حين يضع منشوراته المهدوية، ويتحدث بجدية من قلبه حين ينصح ويوجّه، ويجد في قلبه حرارة الشوق وبرودة الحب لإمام الزمان في الفيس بوك.. نسي أمراً خطيراً ومهماً.
دخل شهر شعبان، عامر يستعد للسفر مع عائلته إلى كربلاء لحضور الزيارة الشعبانية وتوثيقها بالصور ومقاطع الفيديو، وبعد انتهاء استعداداتهم انطلقوا عبر الطائرة إلى النجف الأشرف، ثم استقلوا سيارة أجرة إلى كربلاء، توقف السائق في بدايات المدينة لأنه يُمنع دخول غير مركبات العتبة حفظاً للأمن ورعايةً لسلامة الزائرين، كان الجو شديد الحرارة، والناس مزدحمون عند باصات العتبة، وبعد عناء شديد ركبت العائلة أحد الباصات ووصلت إلى قريب الفندق، نزلت العائلة وأنزلوا أمتعتهم، وإذا بصبي ممن يدفعون العربات المحملة بالزوار أو أمتعتهم أتى مسرعاً وعربته محملة بالأوزان فداس قدم عامر! بعد كل ما عاناه.. نفذ صبره وبدأت الكارثة ..
- هل أنت أعمى؟! ألا ترى قدمي!! كسّرت عظامي يا ...
- احترم نفسك! دستُ قدمك عن غير قصد، هل هذه نهايةُ العالم؟!!
- وبكل وقاحة تستهين بفعلتك!!
- لم يتمالكا نفسيهما في هذا الجو الحار والازدحام والأعصاب مشدودة، فاندفع أحدهما نحو الآخر، هذا يلكم وذاك يجيب بلكمة أقوى، كبرت المشاجرة والناس يحاولون إبعادهما عن بعض، ازرقّت الوجوه وسالت الدماء.. وماذا بعد؟
- عامر الذي غشَته ثورة الغضب لم ينتبه أن حوله شبّاناً صوّروا المشاجرة من بدايتها، ولسوء حظه انتشرت المقاطع في مواقع التواصل الاجتماعي بسرعة البرق، في السناب چات والانستگرام والواتس أب.... والفيس بوك.
عامر.. الشاب الذي اشتهر بتدينه في الفيس بوك وشدة تولّعه بإمام الزمان بات محطّاً للسباب والشتائم واللوم من متابعيه! صفحته اشتعلت بالكلام الجارح نتيجة الفضيحة. سقط قناعُ التدين والانتظار يا عامر !
كان هذا الأمر أشد من أثر السم في أحشاء عامر، فقدَ صيته وجمهوره وعناء سنواتٍ في الفيس بوك، أصابه اكتئابٌ شديد، لم يعد يطيق الحياة ولا الناس ولا الفيس بوك، يقضي لحظات عزلته بالألم والبكاء فالهم عميق، لحظاتٌ ضيّعت عليه سنوات.ٍ وأيُّ سنوات.
مرّ عام كامل من تلك القضية، باتت صفحته مهملة، وهو في حزنه قرر أن يدخل الفيس بوك ليرى وضع الساحة، لم يعد اسمه يُذكر في منشورات الموالين، لكنه لاحظ أمراً في الرسائل الواردة عليه.
شخص ما زال يراسله، عاد بالرسائل إلى الوراء فوجد أنه كان يراسله منذ يوم الفضيحة! وفي بداية كل شهر يرسل له :
سلامٌ عليكم حبيبي عامر، أرجو أن تكون بخير وعافية أنا أنتظر منشوراتك المهدوية أرجو أن تعود لنا في هذا الشهر يا نور عيني فلقد اشتقت إليك المخلص سيد رحيم .
تعجّب عامر، فرغم ما جرى ما زال هنالك من يهتم به وبآثاره بل ويلتزم بداية كل شهر بمراسلته !
فكتب له :
- سلام عليكم سيد، لا أدري ماذا أكتب لك، لكن من أنت ولماذا ما زلت متمسكاً بي؟ رغم أن الجميع تركوني !
- ولم ينتظر عامر طويلاً حتى جاءه الرد من السيد رحيم :
- وعلى قرة عيني السلام والإكرام، اليوم فقط أقر الله عيني برؤية حروفك يا حبيبي كيف حالك؟
- حالي؟ ميّتٌ بقلبٍ نابض.
- بل حيّ يا أخي، اسجد لله شكراً فما زلت تتنعم بألطافه وجمائله.
- الحمدلله على كل حال، رغم اكتئابي إلا أنك شددتني لأعرف من أنت، ما حكايتك؟
- أبعد الله عنك الاكتئاب، أنا سيد رحيم، مغترب في أوروبا للدراسة، حكايتي يا عزيزي هي أن الغربة جعلتني أعطي ظهري لله والعياذ بالله.. تركتُ صلاتي وفرائضي، يمكنك أن تقول غرتني الدنيا.
- فضحك عامر بحزن:
- لذلك تمسكت بسافل مثلي .
- لا ! حاشا ليس الأمر كذلك.
- إذن؟
- كنتُ أستخدم الفيس بوك ورأيت صفحتك، سمعت مقطعاً نشرتّه من دعاءٍ كان يدعو به الإمام الرضا للإمام المهدي (صلوات الله عليهما) وفيه يقول: "واجعلنا ممن تنتصر به لدينك وتُعِز به نصرَ وليّك [ولا تستبدل بنا غيرنا فإن استبدالك بنا غيرَنا عليك يسير وهو علينا كثير]" ١
- هذا المقطع أثّر بي كثيراً جعلني أراجع نفسي، ربما كان لي مكان في أنصار الإمام الصالحين لكن بسوء أعمالي أو سوء اعتقاداتي يستبدل الله بي غيري! صرتُ من متابعيك، منشوراتك ساعدتني وأعطتني القوة والحماس، أنا تغيّرتُ بفضلك يا عامر، تبدّل حالي من جحيم الضياع إلى طِيب المأوى.
- وبعد تلك القضية لماذا لم تتخلَّ عني كما فعل غيرك؟ علماً بأن الفضل لله وللإمام في عودتك لصوابك، أنا مجرد سبب !
- لأنني عشتُ وعرفت ما معنى أن تكون شخصاً صالحاً ثم تفسد.
- ثم ماذا؟ أنا لم أعد كالسابق، أنا الآن بلا منشورات ولا فائدة ولا سمعة حسنة، يكفيني حزني وألمي ماذا تريد مني يا رحيم؟!
- أريد أن آخذ بيدك كما أخذتَ بيدي، الذنب ليس خاتمة المطاف، وسوء ابن آدم لا يعني أن يختم حياته بختم اليأس والقنوط من رحمة الله، فليكن ما جرى صفعةً لك لتستيقظ وتنتبه لأخطائك، فليكن ما جرى خطوتك الأولى نحو التغيير.
- أغيّر ماذا؟
- لا تجعل جمهور الفيس بوك شغلك الشاغل! ألم تكتب في صفحتك مرة أننا نعيش في هذا العالم لنتكامل؟
- قهقه عامر ساخراً من نفسه :
- استفاد الناس من حروف الكاتب ولم يستفد الكاتب نفسه من حروفه، كنتُ أنشر ليستفيد الناس ويزداد المتابعون، هل تصدّق إن قلتُ لك: لم أفكر يوماً بتطبيق ما أنشر؟!
- لا بأس، ذاك كان في الماضي! ابدأ حياةً جديدة، تعلّم.. طبَق ثم انشر للناس، انتظار الفرج يكون بأن تبدأ بنفسك عزيزي عامر، عُد لحياتك ولصفحتك وأنا إلى جنبك.
قد يكون همُّنا الأعظم نعمةً من الله عز وجل دون أن نشعر فسبحان مدبِّرِ أمورِ عبادِه، عاد عامر بحلة جديدة وشخصية فريدة بعد أن نفض غبار الاكتئاب من على كاهله، وكتب في صفحته :
يقول ربنا تبارك وتعالى: (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إنّ الله يغفر الذنوب جميعا)٢ أسرفتُ حين أهملتُ نفسي ففضحتني رداءة أخلاقي، اليومَ رحل عامر المنتظِر الفيسبوكي وجاء عامر المنتظِر الحقيقي، اللهم عجّل لوليك الفرج.
انهالت الاعجابات والتعليقات بالترحيب والتشجيع، وأفاق عامر من سباتٍ دامَ سنوات.
عامر ليس الحالة الوحيدة، فهناك منتظرون لفرج المولى في السناب چات فقط والبعض في التويتر فقط.
والبعض توهّم أن الانتظار بتعلم علامات الظهور وتتبعها وقد يبالغ في ذلك لدرجة تطبيق الروايات على أي حدَثٍ يقابله في العالم.
والبعض منتظِر مادي اكتفى باقتناء أجود أنواع السيوف وأشهر أنواع الخيل أصالة وركّز فكره في تعلم استخدامها !
والبعض اكتفى بالبكاء عند قراءة دعاء الندبة، وآخر اكتفى بكتابة الشِّعر أو بعمل التصاميم ونشرها وغيره وغيره ..
كلها أمور حسنة ومطلوبة لكنها تبقى [أموراً فرعية ثانوية] تحت عنوان انتظار الفرج، فأسمى معاني الانتظار أن [تصلِح] عيوبك من اعتقادٍ وأخلاقٍ وقولٍ وعمل، وقد قالها مولانا سيد الشهداء (عليه السلام): "إنما خرجتُ لطلب [الإصلاح] في أمة جدي" ٣.
فلنجتهد بصدق ولنسألِ الله التوفيق لنكون من المؤمنين المنتظِرين حقّا.
____
اضافةتعليق
التعليقات