حفت ریاح الخریف جاهدة إختراق النافذة المطلة علی فناء الدار، و قد نجحت في اجتیاز حوافها حاملة معها عبق رذاذ المطر المتبعثر هنا و هناك، ناثرة معها أوراق الأشجار المصفرة لتهلهلها فوق المدینة و علی رؤوس المارة؛ الذین آثروا أن یسرعوا الخطی نحو أقدارهم، لاهثین خشیة أن تصیبهم القطرات فیحدث ما یجب أن لا یحدث! في الحقیقة لم أفهم یوما لماذا یخاف الناس المطر؟! وما الذي سیحدث لو أصابهم بعض الرذاذ في الربیع و الخریف أحیانا؟
أما أنا فكنت أنظر لقطرة المطر؛ ذلك الرسول الذي قدم من السماء حاملا معه صكوك الحیاة، مبشرا باستمرار الكرم و الحب و العطاء، ما أجمله إذ اختارني لیتساقط علی جسدي فیغسل ما في روحي من مخلّفات متراكمة لأراجیح الزمان.
لاح لي من بعید طیف عاشقین یمسكان بذراع بعضهما و هما یجران الخطی فوق لوحة الفسیفساء الملونة التي شكلتها أوراق الأشجار، و هي تفرش طرق المدینة و أزقتها.. كانا الوحیدين اللذين اكتشفا سحر اللحظة، و هما یراقبان فرحین خلو الشارع شیئا فشیئا من تردد المارة، و لحظ نظراتهم الغریبة المشبوهة المحملة بضباب الریبة و الشك.
مصادیق الهیام وحدها تستطیع صیقلة الواقع لتخرج بمنحوتة أثریة، نحتتها أنامل العشاق القلة الذین ما زالوا یحترفون صناعة الحیاة و تطبیبها بمضاعفة جرعات الحب.
بدأت منال كعادتها في كل صباح بإضافة لمسة علی كل زاویة في المنزل، تبدأ بترتیب الإستقبال فهو أول ما یشاهده الضیف المفاجئ.
كانت تحب مفاجأة الجمیع بكل ما هو راق و أنیق. رفعت كل الأغراض المبعثرة من اللیلة الماضیة بحركة خفیفة متتالیة لتنقلها إلی الأقسام المخصصة بها. فأغراض الأطفال في غرفهم و أدوات المطبخ في المطبخ و هكذا، و قد خصصت خمس دقائق فقط للقیام بهذه الخطوة. ثم انتقلت إلی غرفتها، كانت ضیقة المساحة، لذا لم تتخمها بأغراض كبیرة و لوحات عریضة بل اكتفت بجداریة ناعمة لوردتین زهریتین، تناجیان فراشات الربیع و مزهریة صغیرة وضعتها علی الطبلة المقابلة لباب الدخول.
لمست كل ما في الغرفة تقریبا لتمسح عنه الغبار حتی بدا كل غرض ینبض بالحیاة، و یغمز الناظر بلمعة لطیفة.
غیرت فرشة السریر بأخری نظیفة، مزینة بنقوش مستوحاة من سحر الخریف و زخرفته الخلابة. ما إن انتهت العشر دقائق التي خصصتها حتی انتقلت لغرفة الأطفال التي عینت لها ربع ساعة لتعید كل ما تزحزح من مكانه منذ صباح الیوم الماضي. حملت دمیة صغیرة كانت تلعب بها ابنتها سلمی لیلة أمس.
كانت الملاءات ما زالت ملفوفة بها كطفل رضیع، علت وجهها ابتسامة ملیحة. وضعتها فوق الرف و ذهبت تكمل ما بدأته.
قسمت الأغراض إلی ثلاثة أقسام: ألعاب، و ملابس، و أدوات المدرسة، إضافة للكتب و الدفاتر. في حركة سریعة أعادت كل اللعب في سلة الألعاب و وضعت القرطاسیة في علبة خصصتها لهذا الغرض من قبل و حملت الكتب و الدفاتر في الأدراج ثم رتبت الملابس لتصففها في الخزانات بشكل أنیق.
في الحقیقة لم یكن لأولادها الثلاثة سوی أربعة من القطع الثمینة الراقیة للمناسبات؛ و سبعة من الأطقم المنزلیة الجدیدة و المصفوفة برتابة في الأدراج.
بعد ربع ساعة انتقلت إلی المطبخ لتكمله في نصف ساعة ولكنها كانت تكتشف شیئا فشیئا أنها تحتاج لساعة حتی تنتهي منه بصورة كاملة.
ما إن انتهت من عملها حتی سارعت إلی الإستحمام، و لبست ثوبها السمائي الذي كان یسرد كل صفات الأنثی العصریة التي لم تسمح لمهامها الروتینیة أن تدفن فیها ألق الأنوثة و هیاجها الدائم نحو كل ما هو جدید و متنوع من الفنون الاجتماعیة و التربویة و الأخلاقیات اللطیفة و صولا إلی فنون الطهي و التجمیل و سائر مهارات الحیاة.
جلست جلسة الأمیرات علی الأریكة الرصاصیة التي تخللتها مسحة من اللون الكحلي الفحولي الغامق، لیكسر صمت الألوان بصیحة بریئة. و راحت تقلب في صفحة الجوال لتطلع علی أحوال الأحبة و الرفاق، ثم تضفي بتعلیقات بسلامة من مرض، و وصول بالسلامة و تبریك بمولود، و كثیر من المناسبات الأخری التي من شأنها تقویة أطر المحبة و التعرف علی أحوالهم بأضعف الإیمان إن جاز التعبیر.
لفتت انتباهها رسالة من أم زوجها تدعوها لحضور مجلس عزاء عند جارتهم أم سالم.
كانت زوجة عمها من النوع الذي لا تفوت مجلسا لإحیاء ذكری مصاب المولی سید الشهداء (ع). فلم یكن من المستغرب أن تحضر أكثر من أربعة أو خمسة محافل في الیوم علی أقل تقدیر!.
كان المجلس حافلا بالروحانیة، مهیبا، تتمایل في كوالیسه طقوس الخلود، و أغاني الإیثار المتوهج عبر المراثي الحسینیة.
اعتلت المنبر ابنة جارتنا السیدة رباب الحسیني. كانت طالبة في قسم الحقوق، أبدعت و أجادت في إلقائها وبلاغتها واقتضابها حیث تناولت مواضیع في متناول الجمیع خصوصا الحشد النسائي الطاغي في الحضور، بعیدة عن كل التلقینات التي لا تؤدي سوی إلی إثارة البلبلة و الجدل العقیم.
تناولت اهتمامات المرأة في الأسرة الناجحة، و كیفیة التربیة و مدی أهمیة تنمیة أطر التعایش بین أفرادها و قد تلونت في ذلك بسرد مختلف القصص التاریخیة العاجة في حنایا الكتب المخبئة في أدراج المكتبات الفاخرة التي تستدعي الفرجة أكثر من القراءة.
لاحظت في الأثناء زوجة عمي توتوت بكلمات غیر مفهومة تسمعها فقط ابنة خالتها الجالسة بمحاذاتها.
ندت عن شفة الأخری ابتسامة رافقتها نظرة مریبة اخترقت الجموع لتصیبني. بعد الإنتهاء من المجلس، اتجهت ناحیة السیدة رباب و راحتا تتناجیان باستغراب ملفت.
عاد أمجد مساء بطلَته الرجولیة، التي زادتها رجولة خشخشة الأكیاس المحملة بمختلف مستلزمات المنزل، و صنوف الفواكه و المقتنیات الأخری.
دخل بصخب كالعادة، تعلوه الضحكات المنسابة من بین وجناته و قبلات شفتیه التي نثرها علی الأولاد واحدا بعد الآخر كأنه یعتذر في رتوشها عن غیابه المتكرر كل یوم منذ الصباح حتی المساء.
اتجه ناحیتي متسللا من بین قفزات الأولاد و مثابرتهم الجادة للتسلق علی أكتافه و أحضانه.
غمزني بشئ من الشیطنة المحببة هامسا في أذني: لقد اشتقت إلیك، تأملته بابتسامة عریضة بینما راحت عیناه تتسكعان في ملامحي بإعجاب.
تقاطعت نظراتنا مدویة في طبول الحب و كأنها تسرد من جدید قصة عمر من الحیاة المشتركة امتدت خمسة عشر عاما، تكدست خلالها قراطیس العشق الذي بدا صارخا في فصوله و أقسامه.
استلقیت علی السریر ألتمس الهدوء و الاسترخاء بعد نهار صاخب.
فوجئت برسالة من السیدة رباب، فقلما كنا نتراسل بصورة خاصة. هممت بفتحها بعد أن ثارت في نفسي تمتمات الفضول.
عزیزتي منال فاتحتني زوجة عمك بموضوع قد یثیرك ولكني مضطرة لتنبیهك لأنها وكلتني بذلك و لست في مقام القضاء بل ألتمسك العذر و السماح، بعد أن استیقنت أنني لربما استغبتك أنت جارتي العزیزة و صدیقتي الحبیبة دون التفات.
تعتقد أنك تمارسین بعض طقوس السحر إذ رأتك تقومین برش أثاث المنزل بنوع من المیاه الملونة، ثم أنه لا یمكن لزوج في الدنیا أن یهیم في زوجته كما الحال في أمجد بعد كل هذه السنوات المتكومة من الحیاة الروتینیة، إلا إذا كان قد مورس فیه السحر و یا لولدها المسكین الذي وقع في فخه كما تظن.
طلبت مني أن أحذرك هذا الفعل الشنیع، المنهي عنه في كل الرسائل السماویة. سامحیني عزیزتي فلم یكن من بد سوی الإستماع إلیها بمقتضی الحال، و هي السیدة التي تكبرني سنا بكثیر ولك الشكر الجزیل.
هوت الرسالة كصاعقة علی رأسي، أردتني في بؤرة بركانية من الذهول و الخیبة التي تدفقت حزنا من عیني، بدموع نابعة من خلایا روحي المصابة بجرح فاغر.
انتفض أمجد لمرأی دموعي متسائلا ما بك؟! ما الذي حدث؟ لماذا تبكین؟ هل حدث مكروه ما؟ أخبریني!
سلمته الجوال و طلبت منه قراءة الرسالة.
بینما أمسح دموعي بظاهر كفي تقوقعت في فراشي، و أنا أغمغم: هل یرضیك أن أنعت بالساحرة بعد كل هذا العناء؟! ساد الصمت بیننا جدارا ثلجیا صلبا مقاوما للذوبان، و إذا بي أتحسس حرارة أنفاسه بعد هنیهة وهو یهمس في أذني مبتسما كیف حال ساحرتي العزیزة؟!
تعرفین أن أمي امرأة تتدحرج في طرق الكلمات و قد تسقط في الهوة دون إرادة، ولكن قلبها ینبض حبا و عطفا و حنانا ملائكیا لیس من الإنصاف إنكاره.
ثم أنها لم تخطئ أبدا!!
لقد سحرتني یا منال أثیر ابتسامتك الوهاجة المفعمة بالحیویة، سحرتني رائحة الطعام الشهي الذي تفوح من دارك حتی قبل دخولها، سحرتني لباقة أطفالنا وعلو همتهم و رقي أخلاقهم الدالة علی تربیة تقنیة ضاربة في الإختصاص.
سحرني عبیر عطرك الذی لا یكف عن استفزازي و جردتني عیناك عن كل أسلحة المقاومة.
لقد هزمتني أیتها الساحرة!!
كان أمجد صحافیا یعرف قدرة الكلمات علی تعریة القلوب استطاع تطییب خاطري بكلامه المعسول و المزركش فتجاوزت حینها سخافة الموقف.
ولكن ما حز في نفسي شئ من التأملات الغریبة و استفهام مبهم عن تلك التنقلات المتتالیة للبعض في المجالس وعظیم الجهود التي تبذل لإدارتها بتفان و إخلاص منقطع النظیر؛ كیف لم تؤثر فیوضاتها الروحانية بعد كل هذا الإصرار علی إحیائها، في تغییر نفوس بعض الناس؟! تری هل تحولت تلك القلّة إلی مصادیق للآیة المباركة: {یا أیها الذین آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون}؟؟؟
اضافةتعليق
التعليقات