كانت أیامها رتیبة تعزف علی نسق واحد، باهتة الألوان رغم تنوعها.
لم تعد الأمسیات والإحتفالات والمناسبات المتكررة تشبع فضولها.. صعدت أدراج القصر الملتویة بحوافها المنحوتة علی شكل صور وتماثیل فائقة الدقة، متجهة نحو مخدعها؛ علها تجد في خلوتها انطلاقة ناحیة المجهول الذي قد یكون أفضل حالاً من واقعها.
بدت غرفتها فسیحة، لطیفة مبنیة بعنایة في صدر القصر تحوطها الجدران السامقة المزینة بنقوش بدیعة تحكي روایة فن عریق.
خلعت معطفها المزركش و المزیون بغزیر الأحجار الكریمة النادرة، ثم استلقت علی سریرها المرصوف بعناية في الجهة المقابلة للنافذة التي تطل علی حدیقة القصر الغناءة؛ الملیئة بشجر قصیر ملون، وزهور اكتست مع الغروب لمعة زادتها نضارة.
راحت ترنو الأفق بنظرة كسلی وهي ترفرف بمخیلتها مع أسراب الطیور القادمة من بعید، وقد نكز خاطرها ما حدث لیلة خطوبتها من ابن عمها.
كان المجلس مهیباً حافلاً بكبار القساوسة و الرهبان الذین بلغ عددهم الثلاثمائة، أما قواد العساكر و نقباء الجیوش وأمراء العشائر، فكانوا أربعة آلاف ضج بهم بهو القصر المهیب.
ارتقی ابن عمها العرش مستعداً لإتمام المراسم وقد نشرت أسفار الإنجیل و إذا بحدث فادح هال الجمیع.....
تساقطت الصلبان من الأعالي فلصقت بالأرض و تقوضت الأعمدة و انهارت إلی القرار.
تقلقلت في مخدعها حتی تخاطفت جفنیها وسنات سریعة و غفوات انتشلتها من ركام الهواجس و الأوهام.
لم یمض من هجوعها نحو ساعة حتی انتفضت مصعوقة من نومها مهرولة نحو الباب الخارجیة، حیث الممر المسیج الأنیق الذي یحدو بها نحو السلالم الملتویة المؤدیة إلی رحبة القصر.
تبعتها ثلة من وصیفاتها اللاتي اعتدن مرافقتها لیل نهار.
یا الهي، الرحمة و العفو و الغفران یا ابانا االذي في السماوات، إن یدي ترتجفان رهبة و خیفة، وقلبي و روحي یرتعشان من تصاریف هذا الزمان و أنت وحدك یا الهي الرحیم لك المجد تعلم ضعفي عن غلل الأیام.
ما هذا الذي رأیته في عالم الرؤیا، كان المسیح علیه السلام یجلس مع جملة من حوارییه علی منبر یباري السماء علواً و ارتفاعاً و إذا برسول المسلمین محمداً (ص) یدخل مع فتیة و عدة من بنیه، یطلبني خاطباً لولده الذي أومأ إلیه بیده مشیراً و مسمیاً إیاه ب(ابي محمد) و قد بشر بثمرة هذا الزواج، وهو مولود یملأ العالم قسطاً و عدلاً بعد ما ملئ ظلماً و جورا.
تغیبتُ في سرادق الصمت ذاهلة واجمة، و أنا أفصح للوصیفات بأنه لم یكن سوی حلماً عابراً كغیره من الرؤی.
ولكن الویل الویل لما یؤرجحك العشق في دهالیز الغیاب، و یأخذك كل منحی دون إرادة و اختیار.
بلغ بي الحب لذلك الطیف المجهول حد الترخص و اجتاز تباریح الهوی.
لم تعد تغویني الروائح الزكیة المتصاعدة من صحاف الطعام، و لا الأشربة اللذیذة الغامزة في كؤوسها الملكیة الرشیقة.
بعد اربع لیال كأن السیدة العذراء (مریم ابنة عمران) سلام الله علیها زارتني و معها السیدة المقدسة الجلیلة (فاطمة الزهراء) علیها السلام في الف وصیفة من وصائف الجنان، لتقول لي هذه سیدة نساء العالمین و ام زوجك (ابي محمد).
راحت دموعي تنهمر ماطرة دفقی متبركة بطیفها السماوي الآذن بالرحمة كل حین، تمسكت بأذیال ثوبها و أنا أشكو حال الوجد و الضیاع، و جفاء الحبیب الذي أمضني هجرانه.
كان حضورها الملائكي یبعث في النفس مدناً من الطمأنینة الغالبة.
طلبت مني نطق الشهادتین و التخلي عن ملة النصاری حتی یؤذن لولدها بالزواج مني؛ فنفذت طائعة في اللحظة.
بعد أیام مضت كسنین ضاربة في الامتداد، رأیت ذلك المنام الملكوتي الذي انتشل روحي لتحلق في سماوات الهدایة الرحبة وانا أمتثل لأوامر مولاي (ابي محمد) الذي یدعوني للخروج مع أساری الروم في زي الخدم من طریق كذا، وانا ادعي بأنني خادمة تدعی (نرجس).
كانت (ملیكا) ابنة یشوعا بن قیصر الروم، تنسب من طرف امها الی شمعون وصي المسیح (ع).
ارسل الإمام الهادي (ع) جاره النخاس (بشر بن سلیمان) إلی بغداد محملاً إیاه برسالة خطت بخط رومي، مطبوعة بخاتمه الشریف، مع صرة فیها مائتان وعشرون دیناراً ثمناً لشراء جاریة وصفها بالدقة لیشتریها من شخص اسمه (عمربن یزید النخاس) بعد أن یریها الرق المكتوب بخط یده الشریف.
كأن أبواب الجنان قد تفتحت و فاحت أنسامها الربیعیة العطرة المحملة بخط الحبیب.
أخذت أمیرة الروم الرسالة من (بشر بن سلیمان) و هی تقبلها تارة و تشم عبق أریجها تارة أخری، لتعاود التمسح و التبرك بها مراراً في طریق الرحلة إلی الخلود.
شعور طافح بالإستقرار طغی علیها عند الوصول الی سامراء، مقر المحبوب الذي عینته السماء.
كأن الزمن قد توقف ها هنا و انفصل العالم عن الوجود لینساب في شخص الإمام علیه السلام.
كان بهي المحیا، حسن الملامح، في عینیه سمرة اللیل الهادئ، طویل القامة مرشوقاً كالسندیان، حنطي اللون جمیلاً اختزل حسنه تفسیر الآیة المباركة {تبارك الله أحسن الخالقین}.
في لحظ عیونه قیود تكفي لأسرك مدیداً، كما باستطاعتها أن ترج الناظر رجاً متلاطماً في ثوان.
راحت الآفاق تنثر أكالیل الورد عند القران المبارك، نظرت الیه باستحیاء نظرة خاطفة؛ بدیعة لغة العیون عندما لا یفهمها إلا المحبون، یخیم الصمت فیها عندما تبدأ بالكلام.
تزوجت السیدة نرجس سلام الله علیها من الإمام الحسن العسكري علیه السلام و قد تكفلت السیدة حكیمة (س) بنت الامام الجواد (ع) أمر تعلیمها و تربیتها المنهج السامي للخط الإسلامي العلوي حتی تخرجت من هذه الأكادیمیة متفوقة بامتیاز فاستحقت المقام العالي الذي خصها الباري عزوجل بذلك حتی تتصاعد في مدارج الخلود وتتوج اماً لمنقذ البشریة جمعاء الإمام المهدي المنتظرعجل الله فرجه الشریف.
اضافةتعليق
التعليقات