لملمت أغراضي بعد أن قضیت لیلة ساهرة طویلة عند سكة الحدید و أنا أراقب وصول هذه الأفاعي الحدیدیة و ذهابها، كانت لیلة باردة، یوحي صریر زمهریرها بشتاء غاضب، تتطایر فیه كبب الثلج كالقطن المندوف، و بعد طول انتظار و إنهاك مفرط طلعت خیوط النهار خجلی، تفتح عیناً ناعسة علی الطبیعة.
توجهت مسرعاً نحو السیارة و أدرت المفتاح و أنا أحلم بدفء المدفأة الزیتیة و لهبها الراقص، ترقد بجانبه أمي التي أعدت لي إبریق الشاي برائحته العطرة فقد اعتدنا أن نفطر سویاً كل صباح ثم أذهب لأنام قبل أن أستیقظ علی رائحة الطعام الزكیة التي تملأ أرجاء الباحة الرحبة في بیتنا.
ولكن هیهات، سرعان ما تبدد الحلم و راح یضمحل شیئاً فشیئاً كلما دار المفتاح.
كانت السیارة كالجثة الهامدة لا تظهر أي علامة حیویة.
وقفت حائراً أضرب أخماساً في أسداس.
انّى لي الخروج إلی الطریق الرئیسة و السیر نحو أقرب قریة في تلك الصحراء التي كشرت عن أنیابها الثلجیة و مخالب قرها الجارح.
سرت نحو ساعة في كتل الثلج التي غطت قدمي حتی الرسغ، و أنا آیس تماماً بمرور أي عجلة في هذا البرهوت الجامد، إذ كانت الطرق شبه مغلقة و قد أعلنت الحكومة حالة استنفار، مطالبة المواطنین عدم الخروج إلا للضرورة.
وصلت بعد جهد طویل إلی محطة الباصات. كانت كراسیها متشحة تماماً بثوب عرس أبیض غمزني في سري مستفزاً، هل یا تری سأتكفن به قبل أن....
خاطبت نفسي دعك من هذا إنها زعقات الشیطان.
لا أعرف لماذا أزحت الثلج و جلست علیها؟ هل كنت منهكاً حد الثمالة؟! أم أن الكراسي هنا أعدت لانتظار الباصات علی أیة حال؟!
كان الوقت یمضي بطیئاً، أمضني النعاس الذي هاجمني كالمارد و أخذ الضعف یسري في أطرافي فلم أعد أشعر بها.
فكرت أن أكتب بعض الكلمات علها تسعفني بعد مماتي و لا أكون جثة مجهولة الهویة علی الأقل.
أخرجت قلماً صغیراً من جیبي، و ورقة من محفظتي التي كانت ملأی بالنقود. كم كانت عدیمة الفائدة في تلك اللحظة!
كتبت خلف الورقة:(أنا المدعو أحمد الهاشمي، أسكن في محلة الموظفین، الشارع الخامس، الزقاق الثاني، رقم الدار 34 و أدرجت تحتها هاتف منزلنا).
أمي الحنونة: الحیاة متاهات و أحلام یتحقق منها القلیل و یتبخر الكثیر في الحسرات .....
و الخیارات متعددة....
و الأمل باق.....
أسألك الرضا و الدعاء بالرحمة و الغفران.
طویت القصاصة و وضعتها في جیبي.
فجأة لاحت لي من بعید نقطة سوداء، فكرت وقتها، هل یظهر السراب في صفاح الثلج أم أنه انعكاس الرمال في الصحراء
فقط؟!
ركزت النظر جیداً، ورحت أحدق مضاعفاً، لم یكن سراباً، بدأت كوة الأمل تنفرج شیئاً فشیئاً، إنها عجلة تتجه نحوي في مسار الشارع بهوادة. اقتربت مني و توقفت بمحاذاتي.
بدت السیارة مظللة، غشیها البخار من الداخل، فلا یظهر حمولتها إذ أن أجواء الحرب و الإرهاب كانت تستدعي الحذر في الأوقات العادیة.
ولكن ما العمل؟ كنت سأركب حتی لو كان فیها غولاً!
فتحت الباب و هممت بالجلوس علی المقعد الأمامي و قد داعبت وجناتي نسائم المدفأة و إذا بي أفاجأ بامرأة خلف المقود!
تسمرت في مكاني، أول ما خطر لي أین سأجلس؟ هل أشغل المقعد الأمامي أم أحترم نفسي و أجلس في الخلف؟!
نظرت في وجهي دون أن تنبس ببنت شفة.
سألتها: هل تسمحین لي بالجلوس أمام المدفأة فأنا نصف متجمد!
قالت بنبرة استسلام:
تفضل!
لم أصدق ما أری، فإننا في مجتمع محافظ لا تركب امرأة رجلاً بجانبها حتی لو أطبقت صفحات السماء علی الأرض.
كانت نَصَف في عمرها، لفت وجهها بالشال الصوفي فلم یبدو منه سوی جزء قلیل شغل أغلبه عینان واسعتان، تتجاهلان النظر في وجهي.
أما یداها فما برحتا تمسكان بالمقود بشدة و كأنهما تطبقان علی آلة الحیاة بتشبث منقطع النظیر.
شعرت بانزلاق السیارة مرات عدة إلا أن لذة الدفء الذي بدأ یسري في أطرافي؛ أفقدني أي شعور بالخوف بعد أن حضیت بعمر جدید.
أطبقت أجفاني للحظة محاولاً عدم النوم حتی أستلم القیادة إذا ما تفاقم الوضع، إلا أني غططت في نوم كالموت لم أستیقظ منه إلا علی صوتها الذي ناداني:
استیقظ یا أخي فقد وصلنا! لي في هذه القریة معارف، و أهلها طیبون كرماء، لك أن تبقی عندهم متی تشاء، فمن المؤكد أنك لا تنوي الرجوع إلی المدینة فالطریق مغطی بركام موحش من الثلج.
ترجَلَت و طرقت إحدی الأبواب، كان خشبیاً قصیراً صیغ بحرفیة یترك في خلدك إعجاباً لأنامل أتقنت صنعه و إحكامه.
بعد هنیهة إنفرجت مصارعه و أطل منه رجل كهل، اجتاح الشیب ذؤابات لحیته، تتلامح في سحنته، حكایة طویلة، و كفاح مستمر إلا أن الإبتسامة أبت أن تفارق الحفر في أخادیده التي حفرتها السنون.
حیته الفتاة بتحیة الصباح: كیف حال العم أبا صالح؟!
ألا ترید ضیفاً تتسامر معه هذه اللیلة؟!
رد بصوت مفعم بحیویة الشباب و حنان الآباء:
یاأهلاً و سهلاً تفضلوا تفضلوا!
قالت بصوت شبه مسموع:
كان في حال یرثی لها، فرأیت أن أوصله إلی القریة ریثما تهدأ الأجواء و یعود إلی دیاره.
ودعتها و شكرت لها موقفها السامي و تصرفها النبیل، ثم ذهبت تاركة خلفها سیلاً من الأسئلة و الإستفهامات التي حاولت جاهداً عدم الإكتراث لها فقد نجوت بحیاتي، لربما كانت ملاكاً أرسلتها السماء علی حین غرة، ولكن ماذا تفعل یا تری امرأة في مثل هذا القمطریر الفاحش علی الطریق السریعة؟!
دخلت رحبة الدار، كان منزلاً ریفیاً بباحة وسَط في حجمها، لا هي بالصغیرة الضیقة، و لا بالكبیرة الواسعة، منشرحة یتوسطها حوض ماء تجمدت صفحاته، بدا شبه مهجور إثر صبارة القر التي لفت البلاد.
قال ابوصالح:
تفضل یا ولدي، الدار دارك، أنا وحید في هذا المنزل، سافرت زوجتي عند ابنتنا حیث تستعد لاستقبال مولودها الصغیر، إنه شعور بالفرح لا یوصف.
بدت معالم البهجة و السرور تتضح في وجهه البرئ.
حاول تهیئة مكان لائق لأجلس علیه، لكني آثرت البقاء بمحاذاة المدفئة الخشبیة، كان یشعرني لهبها اللافح بحرارة الدم المتدفق في عروقي، إلا أن إحساساً بالوهن لا یوصف اعتری كل أوصالي. اعتذرت من الرجل و افترشت الأرض لأغط في نوم عمیق.
استیقظت منه علی صوت طرقات الباب، و صوت ینادي العم أبا صالح.
فتحته و إذا بي أمام امرأة عرفت فیما بعد أنها الجارة أم أحمد، تحمل قدحاً ملیئاً بحساء الدجاج الساخن و الشهي، لم تلامس أنفي رائحة أزكی منه؛ كان الهدیة الأثمن في حیاتي.
قالت أن العم لیس بصحة جیدة، فرأیت أن أقدم له بعض الحساء. شكرتها و انصَرفت.
رحت أبحث عن الرجل، وجدته في الغرفة المجاورة، مستلقیاً علی فراشه جنب مدفأة بدی أن زیتها قد نفد منذ وقت طویل.
قال بصوت ضعیف:
آسف یا ولدي لم أستطع النهوض، لا بد أنها جارتنا أم أحمد حماها الله، تأتي لي بالطعام منذ سافرت أم صالح.
قلت له بلحن عتاب:
لماذا یا عمي لم تنم هناك؟! هذه الغرفة باردة بنحو ینخر العظام و قبل أن یجیب، حاولت مساعدته للنهوض و الإنتقال إلی الغرفة التي شغلتُها.
بحثت في المطبخ عن صحن آخر أفرغت فیه شیئا من الحساء و قدمته له.
كان الضعف بادیاً في وجهه واضحاً، أكل لقیمات و توقف؛ بینما أقبلت علی الحساء بنهم أفرغت القدح حتی النهایة.
راحت أسراب النهار تبتعد شیئاً فشیئاً، تاركة المسرح لظلام اللیل الدامس. أعددت كأسین من الشاي الساخن فهو أكثر ما یحتاج إلیه المرء في مثل هذه الأوقات ورحنا نتكلم سویاً و مطولاً.
سرد لي قصصاً شیقة عن أهالي القریة و اهتماماتهم.
كیف أن دجاجة أم أحمد لم تبض یوماً و الظاهر أنها عقیمة تماماً حیث ذهب تعب أم أحمد سدیً في رعایتها، ثم تساءل هل سمعت یوماً بدجاجة عقیمة؟! ضحكنا ملیاً، ثم حكی لي كیف ساعد البقرة علی إنجابها لما انقطعت بهم السبل في الشتاء المنصرم.
بعد هنیهة لملم ابتساماته، و راح یسرد بجدیة أكثر، و محننا لیست بالقلیلة یا ولدي!
ها هي المسكینة (لیلی) تسهر علی رعایة عریسها، بعد أن أصاب كتفه رصاصة لیلة عرسهما من ابن عمها الوغد الطاغي (لؤي) الذي كان یطمع في الزواج بها كزوجة ثانیة.
حكیت له أیضاً عن أمي الحنون و دعواتها التي تزفني بها كلما خرجت إلی عملي، خصوصاً في اللیالي التي أقضیها بالخفر في سكة الحدید المجاورة لقریتهم.
ثم ضحكنا بعد أن رویت له أنها مازالت تقف خلف باب الحمام تأمرني بأن ألیف قدمي جیداً قبل الإنتهاء من الإستحمام.
حاول النهوض من فراشه و هو یتمتم:
لعن الله المرض إنه يقضمك لقمة لقمة.
مسكت یده لأساعده، كانت حرارته مرتفعة جداً، لدرجة أشعرتني بالخوف في أعماقي.
قلت له: حالتك تسوء أكثر فأكثر، فحرارتك لم تنخفض بعد، ماذا نفعل؟!
رد بصوت هادئ مبتسماً غیر مبال:
لا تخف إنها هكذا منذ أسبوع، سأتحسن حالما ترجع أم صالح.
أعجبتني روحه الشبابیة و استخفافه بمثالب الزمان.
أخذت علی كلامه و انبریت قائلاً: لا عليك! سنطمئن بعد أن یكشف عليك الطبیب، لا بد من مستوصف في القریة، رد علي بهزل:
یا لكم من جیل متفلسف!
كنت قد ارتدیت معطفي و رحت أحكم ربط الحذاء و أنا أسأله عن عنوان المستوصف.
خرجت مسرعاً مهرولاً، بینما اخترقت جنون الزمهریر أوصالي مستهزئة بالشال و الكفوف و المعطف الذي كنت أحتمي به.
وصلت و أنا مندفع أتسائل عن الطبیب. أرشدني السكرتیر المتدثر الغافي إلی غرفته. طرقت الباب و استأذنت الدخول.
طرق مسامعي صوت مألوف:
تفضل!
دخلت و إذا بي أفاجأ بتلك المرأة، أو سمه القدر الذي حملني من قارعة الطریق لینقذ حیاتي دون مقدمات؛ بعیداً عن ترهات التقالید و الخزعبلات من المواریث المندسة بین مآثر الإنسانیة و القیم السامیة.
ابتسمت بعمق و قالت:
ماذا هناك یبدو أني لن أنتهي منك هذا الیوم.
ابتسمت و شعرت بالضعف و الصغر أمام امرأة لأول مرة في حیاتي. كانت تستحق الإحترام بجدارة
قلت لها:
بفضل الله و فضلك أنا بصحة جیدة، ولكن المسكین أبا صالح حرارته مرتفعة جداً، خشیت أن یصیبه مكروه لا سمح الله.
حملت حقیبتها الجلدیة السوداء، و ارتدت معطفها الملفوف عند العنق بطبقات من الخز و الوبر الأنیق. ثم أدارت شالها حول رأسها و رقبتها بإتقان ملفت فبدت كما رأیتها أول مرة.
ركبنا السیارة، فكنا عند باب الرجل الطیب بعد دقائق.
دخَلَت الدار مسرعة و اقتحمت باب الغرفة..
كانت حبات العرق المتناثر علی وجهه تلمع لمعاناً خافتاً في ضوء الشمعة الموضوعة علی الطاولة بجانب رأسه.
أخذت تجس النبض و الضغط ثم أخرجت حقنة من حقیبتها لتحقنها في أنبوب المغذي الذي أوصلته بمعصمه.
راحت تغمغم متذمرة: الرجل بحاجة إلی مشفی. الإلتهاب آخذ بنصف جسده. ماذا سنفعل إذا انتهت تلك القطرات اللعینة؟!
قفزت من مكاني و كأن قوة مجهولة رفستني للوقوف بهیئة استعداد.
أجبت بصوت واثق:
ماذا تحتاجین؟
أدرجي أوامرك علی تلك الأوراق و سآتيك بها حالاً.
نظرت إلي بتردد و في آخر محاولة بائسة أخذت تكتب الوصفة.
كان الرجل بحاجة إلی عنایة مشددة.
طفقت أجري مسرعاً نحو الخارج و قد نسیت تماماً ثورة الطبیعة و هیاجها، كانت السماء ترعد و تزمجر دون هوادة.
نادتني بصوت مسموع: تستطیع أن تأخذ السیارة، الطریق إلی مخزن الأدویة نصف ساعة في الأیام العادیة. ستجد هناك من یؤمن لك الوصفة. ثم استأنفت:
وقود المدفأة آخذ بالنفاد، خذ وقوداً أیضاً.
جلست خلف المقود و أدرت المفتاح فاشتغل المحرك مصدراً دویاً عالیاً، و تحركت تلك الكتل من الحدید المركوم، كانت الطریق وعرة غیر سالكة، زاد الطین اللزج الأمر سوءاً، و بشق الأنفس استطعت الوصول إلی مخزن الدواء و تأمین الوصفة، ثم الوقود و الرجوع سریعاً بعد ساعتین.
طرقت الباب و استأذنت الدخول.
كانت المدفأة تلفظ أنفاسها الأخیرة، و قد شارفت قطرات الدواء علی الإنتهاء.
وجدتها تجول في الغرفة، و قد تدلی من عنقها مقیاس الضغط و هی ترتب ما تزحزح عن مكانه.
غسَلت أواني العشاء و الشاي و رصتها فوق الرف بشكل أنیق، بینما راح یتصاعد من الإبریق الموضوع فوق المدفأة بخار زكي معطر برائحة النعناع البري.
شكرتني بحرارة ثم تناولت علب الدواء و كأنها استلمت هدیة ثمینة. كتبت التعالیم خلفها ثم استأذنت بلط :
سیستیقظ في الصباح بحال أفضل سوف أعود إلی المستوصف.
شعرت برغبة في إیصالها و حمایتها في تلك الساعة من اللیل و الظلام القاتم، عرضت علیها المساعدة فقالت: لا عليك لقد اعتدت الأمر؛ في هذه البقعة من الأرض لا یوجد خیاران، إما أن أفكر في نفسي أو أنقذ هؤلاء المساكین الذین لا سبیل لهم سوی مصارعة شظف العیش في هذا الوطن البائس.
حسناً أرجو أن أراك في فرصة أسعد المرة القادمة. إلی اللقاء.
خرجَت مسرعة ثم غابت في طیات الدجی.
أخذت أفكر ملیاً، كیف یمكن أن یتخطی المرء ذاته لیفكر بالغیر، بكل بساطة و دون حاجة إلی سماع زخم من الإرشادات و التوجیهات، أو مطالعة كومة من الكتب التي تحث علی الإیثار، لیتمایل فوق أجنحة الملائكة برقة و لطافة، یسطع منه وهج من نور العطاء الإنساني، یا للعجب! فعل خالص، نقي، واحد یكفي لمؤلفة من الأقوال.
نظر إلي العم أبو صالح بعینین شبه مغلقتین و استطرد قائلاً بصوت خافت:
الدكتورة (هیام) جاءت إلی القریة منذ عام؛ لا یوجد بیت إلا قدمت له المساعدة، إنها همیمة و تستحق كل خیر.
بدأ السحر یجرجر أثوابه تاركاً المسرح لخیوط النهار، تنسج هالات من نور الشمس الشتویة الواهنة التي آثرت أن لا تحرم الخلیقة من سنا أنوارها علی الأقل.
استیقظت قرب الظهیرة خجلاً، عندما رأیت العم أبا صالح قد أعد الفطور المكون من البیض المقلي الطازج الذي أحضره علی الأغلب من قن الدجاج، و كأساً من الحلیب الذي خفقت جل شركات الإنتاج علی استحضاره بذلك المذاق القروي الفرید، إلی جانبه قرصان من الخبز الشهي أعدتهما أم أحمد.
كان فرحاً مسروراً، انبری یخبرني مبتهجاً بولادة حفیده الجدید. سعدنا و باركت له هذا الخبر السار.
ودعته بعد أن تأكدت أن ابنته الأخری ستحضر لرعایته، و خرجت لأستقل آخر حافلة متجهة صوب المدینة، لم أصدق عیني و أنا علی باب المنزل، تستقبلني أمي بحفاوة الأمل و دفء الحنان، بعینین قد اغرورقتا بالدموع و امتزجتا بالفرح، ضمتني و راحت تنهال علی بسیل من الأسئلة، سؤال تلو سؤال.
مضت الأیام و الشهور علی هذه الحادثة التي أصبحت كالورقة الرابحة في ید أمي، لتلح علی فكرة زواجي و هي تكرر بالیوم عدة مرات: كدت أفقدك یا ولدي و أنا لم أرك ببدلة العرس! ما بك؟! أرید أن تملأ البیت بالأولاد، تعلو صراخاتهم بینما نمرح أنا و زوجتك بتبادل السیر و الأحادیث.
كنا عائلة میسورة الحال، خلف لنا والدي منزلاً رحباً و عجلة لا بأس بها، فلم تكن لي حجة أتملص بها بعد أن تخطیت منتصف الثلاثینات؛ فقلت لها إفعلي ما ترینه مناسباً.
في عید الربیع الذي كانت تحتفل به بعض الجالیات، وصَلنا صباحاً طرد أنثوي جمیل، عبارة عن علبة من الحلوی الفاخرة و بطاقة تهنئة بحلول الربیع، أدرج تحته عنوان و ختم الدكتورة (هیام السماوي) و في طیاته قصاصة فیها:
أنا المدعو (أحمد الهاشمي) أسكن في محلة الموظفین الشارع الخامس، الزقاق الثاني، رقم الدار 34 .
استلمت والدتي الطرد و قد تهلل وجهها فرحاً فقد فهمت الرسالة و راحت تفتح العلبة بشغف الصغار، ناولتني حلوی لذیذة تناولتها و خرجت إلی الدائرة.
كانت نسمات السرور تهتز في أجواء الربیع، فتخفق القلوب بحبها، إنه شباب الزمان، و نزهة الأبصار التي تضمحل و تذوب فیه الثلوج.
بعد أسابیع اتصلت بي أمي في الدوام، قالت بصوت بهیج:
لا تتأخر في المساء یا ولدي! نرید أن نذهب في ضیافة....
أقفلت الخط و أنا مستغرب تماماً، إلا أن كثافة العمل انتشلتني من دهشتي لتعیدني إلی دوامته دون اكتراث.
أخذت إجازة ساعیة و عدت مبكراً ممتثلاً لأوامر سیدتي و أمي الحبیبة، تلك المخلوقة بانعكاسها الملائكي الرقراق فوق الثری، بدت في أحلی حلتها، تلبس ثوبها الرصاصي الراقي المزیون بأحجار راحت تتلألأ لتعكس نوراً یشعرك بوهج الفرح و الخفقان. كانت لا تلبسه إلا في المناسبات الخاصة جداً. أجلستني بجانبها، ربتت علی كتفي و قالت بهدوء: وجدت فتاة تلیق بك من عائلة رفیعة الأخلاق، معروفة بالفضل و الكرم، عالیة الثقافة كما تحب، تستحق أن تكون عروسك و سكنك في لحظات الوحدة، فأنا لست باقیة لك إلی أبد الآبدین.
لم أتفاجأ كثیراً، كنت أعرف أنها ستجعلني أمام الأمر الواقع یوماً ما.
خرجنا جمیعاً بعد أن وصلت أختي الكبری أیضاً.
لم أعتني كثیراً بشكل الفتاة و تقاسیم هیئتها، حتی لم أستفسر أمي عن ذلك، فأنا متیقن أن هذا الصنف یمتاز بجاذبیة مخلوقة معه كیفما كان، إنهن جمیعاً یمتزن بقواسم مشتركة تسهل معرفتها، یكرهن الصمت و یحببن التكلم، و یعشقن النوع المعسول منه، تحب النساء الشعور بالاطمئنان لذا تكثرن الأسئلة في بعض الأحیان، عنیدات قد یكسرن أنف كبار الرجال إذا ما أثار عنادهن، لذا من الأفضل ملاطفتهن بكلمتین فقط و بهدیة لا تتجاوز قیمتها بعض الألوف البسیطة علی أن تتحمل مناوشاتهن علی مدار الأسبوع.
وصلنا الدار المنشودة، خرج لاستقبالنا أبو الفتاة كما یبدو و شاب یقف بجانبه، خمنته أخاها.
رحب بحفاوة و حرارة حطمت مباني الحیطة فأخذنا نتبادل أطراف الحوار و التعارف قبل أن تبدأ أمي الحدیث قائلة:
ولدي هذا شاب، مهذب، شهم، عال الهمة، دؤوب العمل، یشهد رفاقه بصبره و حسن أخلاقه، أری لو تفضلتم لتقبلوه ابناً لكم و أخاً لولدكم هذا، و زوجاً وفیاً، و سكناً آمناً لابنتكم وریثة العلم و الأدب و الأخلاق، و نحن في خدمتكم و نسمع أوامركم.
كان والدها صامتاً، و أمها قد تلعثمت لا تعرف ما یجب أن تقول، تدارك الموقف أخوها لیكسر الجو المشحون بلباقة:
أختي فتاة مدللة، كبرت بعز محفوف بالرعایة، كاملة الأوصاف، توازن مسؤولیاتها بین البیت و العمل، إلا أنها تعمل بجد قد لا یستسیغ زوجها ذلك، فإذا ما اتفقا علی هذه النقطة أظن أنه لا مشكلة تستحق المناقشة.
بعد لحظات انفرج باب الإستقبال. لا أتذكر أنني تفاجأت أكثر من هذا في حیاتي، اتسعت حدقتا عیني و رحت أبحلق في وجهها بارتباك تام هزني في بضع لحظات.
كانت هیام تحمل تشكیلة من أكواب الشاي المصفوفة بأناقة في صینیة الضیافة.
لا أنكر أنني أعجبت بشخصیتها الفریدة، كانت تحمل تناقضاً أنثویاً واضحاً، و قد رغبت مرات عدیدة أن أكون بجنبها لفترة أطول، ولكن لم یخطر ببالي لثانیة أن أخطبها، إنه كرم القدر الباذخ..
فرحت في سري كثیراً، فقد قطعت أمي شوطاً كبیراً، و تكفلت عناء هذه المهمة الصعبة.
قدمت لي الشاي، حملني عطرها الأنثوي إلی مدن الخیال و ألهمني جسارة الرجال.
بنوع من الحریة راحت نظراتي تتسكع في وجهها، لم أكتشف من قبل أنها جمیلة، حسناء أیضاً إضافة لكل میزاتها، كانت أهدابها الطویلة السوداء، و عیناها الواسعتان كفیلتين لتشعراني بانهزام تام.
تعثرت الكلمات علی لساني، تلاقت نظراتنا، همست لها:
مصادفتك أجمل ما حل بي منذ عمر.
قالت علی استحیاء:
تمنیت أن نلتقي بظروف أفضل و ها هي أمنیتي تتحقق، ثم لاحظت أباها یرمي نظرة مرتابة یتسائل فیها عن كیفیة لقائنا قبل هذا...
اضافةتعليق
التعليقات