صفوة من الرجال انتقتهم يد العناية الإلهية، اختارتهم فرداً فرداً لا يزيدون ولا ينقصون، كما قال ابن عباس: (أصحاب الحسين لم ينقصوا رجلا ولم يزيدوا رجلا نعرفهم بأسمائهم من قبل شهودهم)، وقال عنهم محمد بن الحنفية: (وإن أصحابه عندنا لمكتوبون بأسمائهم وأسماء آبائهم) .
في حديث لرسول الله (صلى الله عليه وآله) مع سبطه الحسين (عليه السلام): (ويستشهد معك جماعة من أصحابك لا يجدون ألم مسّ الحديد، وتلا: ﴿قلنا ينار كونى بردا وسلما على إبراهيم﴾ تكون الحرب عليك وعليهم بردا وسلاما).
وقال عنهم أمير المؤمنين (عليه السلام) عندما مرّ على أرض كربلاء في مسيره إلى صفين:
(لا يسبقهم من كان قبلهم، ولا يلحقهم من كان بعدهم) .
وقال عنهم الإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه) في زيارته: (السلام عليكم يا خير أنصار) .
أما الحسين (عليه السلام) فقد نفى علمه بمن هم أوفى أو خيرا منهم: (لا أعلم أصحابا أوفى ولا خيرا من أصحابي).
ولا نقرأ زيارة للإمام الحسين عليه السلام وردت عن أيّ من المعصومين إلا وفيها السلام عليهم بعبارات تنمّ عن رفيع مقامهم وعلو منزلتهم: (السلام عليكمْ يا طاهرين من الدّنس، السلام عليكم يا مهديون) وفي زيارة أخرى:
(بأبي وأمي طبتم وطابت الأرض التي فيها دفنتم).
يشاركون الحسين (عليه السلام) تربته المقدسة نفسها وكأنه يضمّهم بأحضانه كما كان يحتضنهم عندما كانوا يسقطون شهداء بين يديه، ويستظلّون بقبته السامية، وتطوف بهم جميعا جحافل الملائكة ليلا ونهارا .
الإمام الحسين (عليه السلام) في مسيره إلى العراق التحق به الكثير طلبا للعافية؛ لأنهم كانوا يظنون أنه مقبل على بلد قد استوسقت له فيها الأمور لكنهم تركوه عندما انكشف لهم العكس، والغريب إن الكثير من الشخصيات التقت بالإمام الحسين وكانوا مدركين لحقيقة الأوضاع في الكوفة؛ وإن الناس نكثوا بيعته وخانوا رسوله؛ كانوا مشفقين عليه، ونصحوه بالعودة وعدم التوجّه إلى الكوفة منهم الفرزدق الذي قال للإمام: (قلوب الناس معك وأسيافهم عليك)، ثم سأل الإمام بعض المسائل الشرعية وسلّم عليه، وحرّك راحلته وانصرف؛ وكأنه بهذا الموقف قد أدّى تكليفه الشرعي تجاه إمام زمانه!.
كما لقي الإمام رجلا يدعى بشر بن غالب واردا من العراق فسأله الإمام عن أهلها، فقال: (خلّفتُ القلوب معك، والسيوف مع بني أمية)، ومع علمه بأن سيوف الناس مع بني أمية وضد الحسين إلا إنه لم يفكر طرفة عين بالانضمام مع ركب الإمام !
وقابل الإمام الحسين (عليه السلام) عند عين من العيون التي في الطريق رجلا يدعى عبد الله بن مطيع العدوي، الذي كان شديد الشفقة على الإمام واحتمله من فوق جواده، وناشده بكل الحرمات أن لا يعرّض نفسه للقتل على أيدي الأمويين، ولكنه بعد كل تلك المناشدات والشفقة الغامرة تركه لبطش الأمويين الذي تخوّف عليه منه ومضى في طريقه مرتاح الضمير!
والأغرب من موقف جميع هؤلاء الناصحين المشفقين موقف ذلك الذي يدعى عبيد الله بن الحرّ الجحفي، والذي خرج من الكوفة تحاشيا من لقاء الحسين، بعد أن وجد خذلان الناس وانقلاب موقفهم ضده، وإن مصير الإمام سيكون القتل لا محالة، ولكن تشاء الأقدار أن يلتقي به الحسين (عليه السلام) ويطلب منه بصورة مباشرة أن ينصره، فكان جوابه الغريب أنه عرض على الإمام سيفه وفرسه لأن نفسه لا تسمح له بالموت، حتى لو كان بين يدي ابن رسول الله، وحتى لو كان خاتمة هذا الموت السعادة الأبدية، فردّ الإمام على عرضه الذي يرشح بالذل والإنهزام: (أما إذا رغبت بنفسك عنّا فلا حاجة لنا في فرسك ولا فيك) .
أما الموقف الأغرب والأعجب الذي أسال مني دموع الدهشة، ودموع الحزن ودموع الفزع؛ نعم الفزع من سوء الاختيار وقبح الخاتمة فهو موقف الضحّاك بن عبد الله المشرقي، الذي دعاه الإمام عليه السلام إلى نصرته، فاستجاب، ولكن بشرط يحبس الأنفاس لغرابته وهو أن ينصر الحسين ما دام له ناصر فإذا نفد أنصاره ولم يكن هناك فائدة من نصرته انسحب من الميدان! فوافقه الإمام الحسين (عليه السلام) على شرطه هذا، وفعلا عندما احتدم القتال يوم العاشر، واستشهد أنصار الحسين جميعهم جاء هذا الرجل ليذكّر الحسين بشرطه وأنه يريد الإنسحاب من المعركة، فقال له عليه السلام: (نعم انج بنفسك إن استطعت)!
وكان قد أعدّ العدة للهروب، وخبّأ فرساً في خيمة انتظاراً لساعة الصفر، وفعلا ترك الإمام الحسين وحيدا، فريدا ونجى بنفسه، فياله من خيار بائس وخاتمة سيئة !
ترى أين قبر هذا الرجل الآن؟ وكم عاش بعد الإمام الحسين، وكم من الأعوام والأيام الخاوية الفارغة قضاها حتى مات ميتة ذليلة باردة حارما نفسه من سعادة الخلود مع سيد شباب أهل الجنة؟!
ولكنها النفوس وحظوظها وتوفيقها!
هل نستطيع أن نقارنه بأولئك الثلة من الأبطال الذين لبسوا القلوب فوق الدروع في أروع ملحمة استشهادية، وثبتوا مع الإمام الحسين (عليه السلام) ثباتا عقائديا لا يوجد مثيله مع كل رجال الحق عبر التأريخ ؟!
عندما نقرأ موقف أنصار الحسين تعترينا الدهشة الممزوجة بالإكبار والإعظام، والرغبة العارمة والصادقة في أن نكون معهم وفي زمرتهم ونردد بكل خشوع: (يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزا عظيما) !
لقد أذِنَ لهم الإمام الحسين (عليه السلام) بالانصراف ليلة العاشر من المحرم، وقول الإمام حجة فهو لا يجامل ولا يواري، عندما جمع أهل بيته وأصحابه وبيّن لهم الموقف بكل صدق ووضوح، وإن القوم لا يطلبون غيره وسمح لهم بالتسلل من مخيمه ليلا لينجوا بأرواحهم، فماذا كان ردّهم ؟
فتيان بني هاشم قالوا له: قبح الله العيش بعدك، وأصحابه تمنوا الموت بين يديه عشرات المرّات على أن يتركوه وحيدا لمصيره .
أولئك الصفوة قد باعوا أنفسهم لله في صفقة عبر الإمام الحسين فربحت تجارتهم، وكانت خاتمتهم أن جاوروه في البقعة التي اختارها الله لسبط حبيبه المصطفى وكما يصفها الإمام الصادق:
(موضع قبر الحسين عليه السلام منذ يوم دفن فيه روضة من رياض الجنة) وهم معه في الآخرة في حضيرة القدس عند مليك مقتدر، وكما يقول الشاعر :
قَـدْ جـاوروه هـاهُـنـا بـقـبـورِهـم
وَقُـصُـورُهُـم يـومَ الـجَـزا مُـتَـحاذِيَه.
اضافةتعليق
التعليقات