الجميع يؤمن أنّ الحياة يومٌ لكَ ويومٌ عليك، والزّمان متقلّب لا يرضخ لسلطة أحدٍ مِن البشر، النّاس تفني كلّ يومٍ بطرقٍ مختلفة كأنّ الموتَ هو سيّد المفاجآت، والماديات تتداول كأنّها قطعة قمار لا تعترف بأحد، هي أعلى مِن الجميع، والأقدار تنزل على قلبي فتوقف نبضاته مِن الدهشة. الكلّ يفنى عدا ما حَملته القلوب واحتفظتْ به الذّاكرة.
بين كلّ هذا كنتُ أعيش في أُسرة متوسطة الدخل على الحدود الفاصلة بين الأغنياء والفقراء، أُوشك أن يهوي خطّ الفقر عكس الجّاذبية فينكّل بنا، بينما كان لي جارٌ ينكّل بي كلّما سنحتْ له الفرصة دونَ أيّ خجَلٍ أو رحمة، عشرون عاماً وهو يكاد لا يمرّ يوم إلّا ويُحاول فيه التَنْكيل بسعادتي، كنتُ ضعيفاً لا أملك سوى الدعاء ومرتّب حكومي وعملٍ خاص في ورشةٍ صغيرة، بينما كان هو يتذيّل أثواب الأغنياء ويسير في ركاب أصحاب السلطان.
كان يُحاول سبّي بطريقةٍ غير مُباشرة كما تفعل النّساء مع بعضهنّ البعض، ويُحاول الاشتباك معي في أيّ مشكلةٍ صغيرة، كان يختلق عنّي الأكاذيب ويُحاول أن يشوّه صورتي أمام النّاس. ذات مرة اتّجه به شيطانه ليضرم النيران في منزلي وأنا خارجه في وقت الظهيرة، منعه أحدهم بعد أن أعدّ ورتّب لكلّ شيء، فأطفأ النار قبل أن تُضرم في ربوع المنزل وتجعله رُكاماً يقف عنده الشّعراء، وحُطاماً يُكتب عليه أبيات الشعر.
في النهاية كانتْ حصيلتي منه سيّئة للغاية، حتّى كنتُ أتخيّل بعد كُلّ مُشاجرةٍ يُحدثها أنّ ناراً تشتعل في جسده وتُلهب خلاياه، أن يبرد قلبي ولو بمثقال ليلة مِن اللّيالي الّتى لم أنم فيها مُتردداً ما بينَ الإنتقام والمغفرة، كنتُ أكره للحدّ الّذي يجعلني أختار رؤية المسيخُ الدّجال في ليلةٍ كاحلة السّواد ولا أرى وجهه في نهار يومٍ مُشرق.
مضتْ الأيّام وتعاقبتْ الحياة فكأنّ الأرض انقلبتْ رأساً على عَقِب، أجهده مرضُ خبيث في أطرافه فتورّمتْ، انفضّتْ صحبة السوء مِن حوله، لفظتْه زوجته، تجنّبه أولاده، أصبح لا يعيش سوي بالكبر كي لا يرى نظرة النّاس الشّامتة، انحنى ظهره وأصبح يتحرّك على كرسيّ حديديّ بضعفٍ وهزل، تعثّر لسانه، وانفكتْ حقيقته، وامتزجَ وجهه بالضيق والحزن، يا للزّمان كيف يفعل بالنّاس هذا؟ يا للأيام الّتي لا تدوم لأحد، يا للحياة الّتي تستدير لتُري النّاس حقيقة ظُهورهم الّتي تستقيم على عظمةٍ مكونة مِن فقَرات، يا لربّ المظلومين كيف ينتقم!.
ظننتُ النّهاية قادمة بعد أيام معدودة، ربّما أُبالغ، بل ستأتي بعد ساعات، أُبالغ أيضاً، ستأتي بعد دقائق أو ثوانٍ أو لحظات، أيضاً أُبالغ، إنّ الرجل قد انكشف عظمه وتساقط لحمه، النهاية ستأتي الآن. كنتُ مخطئاً جدّاً، لقد تأخرتْ النّهاية كثيراً، تأخّرتْ حتّى هلكَ ماله، وتساوى مقداره بالتراب، ذُلّ بتفاصيل المرض كما أذلّ الكثيرين وتعالى عليهم.
في ليلةٍ ما، ليلةٍ كاحلة كتلك الّتي كنتُ أحلم بها مُنذ خمسة عشر يوماً، كنتُ أتقلّب في فراشي كمن حصل على خبرٍ مُفرح يمنعه مِن النوم، نزلتْ الأقدار والنّاس نيام وقد غَفَلَ بعضهم عَن حقيقة أنّ مالِكَ الكون لا ينام، انتهى صَبر زوجته من تألّمه وضجرتْ مِن مرضه، نهضَ الشّيطان بإرداة الله ليمهد لها الطريق كي تتخلّص مِن زوجها، نهضتْ مِن فراشها، أمسكتْ مَقْبِض الكرسيّ المُتحرّك مِن الخلف، نظر لها زوجها بجانب عينه دُون أن يحرّك رأسه لأنّه لا يستطيع تحريكه، نظر لها كأنّه ينظر لنهايته، دفعتْ الكرسيّ أمامها بعنف حتّى أصبح في غرفة المطبخ، التفّت أمامه ونظرتْ له وعيناها تقْدِحان بالشّرر، ثمّ اتجهتْ ناحية المنضدة في منتصف المطبخ وأمسكت كبريتاً وقامتْ بإشعاله، ثمّ نظرتْ لزوجها وهي تضع الكبريت لِتُشعل المَوْقِد ثمّ تضع خِرقةً جافّة على المَوْقِد وتركتها تشتعل حتّى تأكدتْ مِن اشتعالها، كانَ ما تبقى مِن حياة زوجها يدفع قلبه للنّبض بسرعةٍ بالغة، إنّه حُبّ الحياة حِينَ تكون الحياة بحقيقتها أمامنا ونحنُ مقيّدون بالأقدار لا نملِكُ قرار إكمال السير فيها.
وضعتْ بجوار الخِرقة المُشتعلة بِضع خِرَق ثمّ أمسكتْ بطرف القُماشة التّي تُزيّن المِنضدة وجعلتها بجوار الخِرَق، علا الدّخان حتّى انتشر في سقف المطبخ، خرجتْ الزوجة مِن المطبخ بينما الزوج ينظر لها بكلّ ما أعطاه الله مِن رحمة طيلة حياته ولم يستعملها، نظر لها برجاء ولكنّها تجاوزته وقامتْ بدفع الكرسيّ وتركه يصطدِم بالمنضدة، غادرت باتجاه غرفة نومها كي تقوم مفزوعة بعد دقائق على رائحة حريق غير مقصود أهلكَ زوجها العاجز، استلقتْ على سريرها تنتظر حتّى يملأ الدخان أرجاء المنزل بينما وقع زوجها مِن على كرسيّه عندما اصطدم بالمنضدة.
ذاب بقيّة جلده وتسعّرتْ النّار في جسده ورمدتْ عِظامه وانطلقتْ صرخةٌ مِنّي لأفيق مِن نومي وأنا أتساءل "لماذا صنعتم مِنّي هذا الحَالِم؟ لماذا أوصلتموني لأن أدعوا عليه بكلّ هذا؟ لماذا بدّلتموني بشخصٍ آخر غيري؟ لماذا جعلتم مِنّي هذا؟.... لماذا لم تتركوا في قلوبنا رحمةً تجاهكم؟ لماذا استنفذتم جميع مُحاولات الرحمة في قلبي تجاهكم؟ لمْ أكن أُريد في يومٍ مِن الأيام أن ترحلوا وتكونوا عِبرةً هكذا".
اضافةتعليق
التعليقات