جدتي جميلة جدا واجزم انها اجمل جدة رأتها عيناي، سارعتُ لأحضانها واخذني الشوق لأضع رأسي على حجرها لتربت علي بكفها الحنو وتلاعب خصلات جديلتي لتنسدل حيث اشعر بالطمأنينة، اغمض عيناي بسعادة وأعيرها مسامعي ويعود كل شيء في داخلي الى الحياة ما ان تبدأ بسرد قصص وروايات من الماضي الجميل، فحكايات جدتي تجعلني فعلا ارثي الحاضر الذي نعيشه اليوم..
سألتني بعفوية (كيف حالك يا ابنتي).. تنهدت قليلا واجبتها (جدتي انا مرهقة جدا) لتردف امي قائلة (من ماذا انت مرهقة، اتسمين العمل الذي تفعلينه شاقا، هي بعض اطباق، حقا انتم كسالا، اه لو كنتم في زماننا).
اجبتها بضجر (اوه يا امي انت لاتصدقين ان هذا العمل متعب، لا اختلاف بين زماننا وزمانكم) قهقهت جدتي بصوت حنو وقبلتني على رأسي واردفت قائلة (يا ابنتي اتعلمين ماهو زماننا وزمانكم، الفرق يا ابنتي اننا جيل لم يتأزم من ظروفه العاطفية ولم ننهار نفسيا من عصا المعلم، نحن الاطفال الذين لم ندخل يوما المدارس بهواتفنا النقالة ولم نشكوا من كثافة المناهج ولاحجم الحقائب المدرسية ولا كثرة الواجبات المنزلية، نحن الذين كنا نجتهد في حل الكلمات المتقاطعة وفي معرفة صاحب الصورة وفي الخروج من طريق المتاهة الصحيح وكنا لاتسعنا الدنيا من الفرحة ولاتغادرنا الابتسامة، اما انتم ياابنتي جل ماتفعلونه مجالسة هذا الهاتف النقال وحتى ابتسامتكم ليست حقيقية، متهورين تملأكم العصبية ويتملككم العزوف عن الدراسة رغم قلة المناهج وكثرة الملازم).
اردفتُ قائلة (لكن ياجدتي حقا مناهجنا صعبة جدا بالاضافة الى سوء التعليم، اوه كل شيء عكسنا حتى الخدمات الكهرباء وكل شيء كيف تريدين منا ان تكون "نفسياتنا" رائعة مع هذا الوضع الرديء).
ضحكت وردت علي بصوت ساخر (يا ابنتي نحن حتى اولياء امورنا لم يستذكرون لنا يوما دروسنا كما انتم، ولم يكتبوا واجباتنا المدرسية ولم ندخل دروس تقوية حتى انهم لم يكونوا يعطوننا دافع للتفوق والنجاح، نحن لم نكن يوما مثلكم لم نضع صور عوائلنا ورحلاتناواكلاتنا على مواقع التواصل.. كانت تفاصيل يومنا عفوية جدا، كنا ننام عند انقطاع الكهرباء في فناء المنازل ونتحدث كثيرا ونتسامر ونضحك ونعد النجوم بفرح حتى نغفوا.
نحن الذين كنا نملك في دواخلنا للوالدين هيبة وللمعلم هيبة وللعشرة هيبة ونحترم سابع جار ونتقاسم مع الصديق المصروف واللقمة والاسرار، اوه انتم جيل الهواتف النقالة والانترنيت والمربيات والمدارس الخاصة والحفلات، لن تفقهوا شيء من ماضينا نحن من كنا نرتب الاعراس في المنازل ونطأطأ رؤوسنا خجلا، اما انتم الان كل شيء مختلف اعراسكم في القاعات وترقصون على اغاني السخف حتى الحياء يكاد يختفي فيكم، فالعروس في ايامنا كان وجهها يحمّر خجلا اما الان هي التي تقيم الحفل وتكون اول الراقصين ولاتعرف شيئاعن الحياء، اختلاف كبير ياابنتي لا اظن انك ستفهمينه).
ثم انحنت وقبلتني على رأسي قائلة (ارثي زمانكم ياابنتي، حقا انتم لاتعرفون لذة الحياة كما نحن كنا.. اتعلمين ياابنتي كنا نستبدل اغراضنا القديمة بشيء من الحلوى والمثلجات ونركض فرحا في اروقة الشارع اما انتم لديكم كل شيء وتقولون ماذا لدينا) وسخرت مني ضاحكة (ليس هناك تشابه بيننا وبينكم حتى اشكالكم بدأتم تغيرونها بمسميات غريبة، لم تعد طبيعية لذلك لاتحاولي التسوية بيننا وبينكم فلن تجدي اوجه شبه ابدا، دمت بخير ياابنتي ورعاك الله) ثم رسمت قبلة على وجنتي..
نعم، كانوا ﻳﺤﺴنون الظن ﺑﺎﻟﻠﻪ ﻭﻳبذﺭﻭﻥ خيرا ويتوكلون ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻟﻤﻐيث.. انقطعت الترويدة، ﻭﺑﺘﻨﺎ أبعد عن تراث حفظه ﺍﻷجداد ﻭﺗﻨﺎﻗﻠﻪ ﺍﻷﺣﻔﺎﺩ، ابتعدنا ﻋﻦ ﺍﻷﺭﺽ فابتعدت ﻋﻨﺎ،ابتعدنا عن اخلاقنا فابتعد الغيث عنا، ابتعدنا عن مبادئنا فابتعدت الرحمة عنا ﻭﺣﻴﻨﻤﺎ ﺗﻐيرﺕ ﺍﻟنفوﺱ تغير المطر، ﻓأصبحت ﺳﻤﺎﺅﻧﺎ أكثر قسوة ﻋﻠﻴﻨﺎ، ﻭﻏيوﻣﻨﺎ ﺗﻬﺮﺏ ﻣﻦ ﺃجوﺍﺋﻨﺎ ﻟتنثر ﻣﺎ ﺗﺤﻤﻠﻪ ﻓﻲ ﺃﺭﺣﺎﻣﻬﺎ من ﺧﻴﺮ ﻓﻲ مناطق أخرى بعيدة ﻋﻨﺎ ..
جدتي روت لي عن الامان وانا ابصر كيف هي دمائنا تتناثر في كل لحظة، لكن لو عدنا للحقيقة كل شيء كانت بدايته منّا، نحن من تركنا الظالم حتى تجبّر واعطينا الرشوة للسرعة وتركنا النصيحة حتى انتشر الخطأ وصمتنا حتى اصبحنا من البلدان المحظورة.
فمع كل حكاية ترويها لي جدتي ابصر الفرق الشاسع رغم ان ماضيهم كان شاقا لكن كانوا سعداء جدا، حتى من تعبهم يرسمون ملامح لاتنسى، اما نحن، الآن لدينا كل شيء سهل ومتاح لكن لانشعر بطعم السعادة الحقيقية..
حجر جدتي عالم اخر يجعلني ابصر حقيقة الامور والحقيقة ان الاجداد نعمة، فالحاضر ايضا سرق لحظات جميلة جعلنا نلهوا بالهواتف بدل مجالسة الاجداد الذين اصبحوا يكتفون بكلمة في الصباح او المساء، لم يعد احد يهتم بحكاياتهم لانها اصبحت من الماضي بل يعتبرونها مضيعة للوقت، يالسخافتهم لايعلمون كمّ الحكمة الموجود في اطروحات الاجداد، إن سألت الاجداد عن ايام زمان ستجدهم يتنهدون قائلين: (اوه اين انتم من ايامزمان)..
ويسردون حقيقة التغيير (المودة، الانسانية، الامان، الرحمة، الحياء).. كل شيء تغيّر،جدتي محقة..
اضافةتعليق
التعليقات