على ضفاف النَهرِ جَلست، تنتظر الأموَاج.. مستندة على جذع شَجَرة، أطلَقَت لُغةَ مِن بِين أنفَاسِها وبين امواج النهر الغافية، رَتّلتُهَا.. عصافير تطير، تدّلى الغصن على خديها، تلامسُ ملامحها الهادئةْ، فَتَحدُثُ.. بصَوتَ شَجنٍ، الموج والشجر والطير والزهر يسمعونها، اقضت سنين عمرها، فهي ليست كالآخرين، الذين يأتون ويذهبون،
تبحرُ الأمنيات في شراع القدر، لترسوَ على ضفافْ النهر، تَتَأمّلُ ذَلكَ النّهرِ وسرب الحمام.. والنوارس، والاوز الأبيض، وَتِلكَ الورِيقَاتِ الخَضرَاءِ المتساقطة على حافة النهر، فالقلبُ مازالَ منتظرا تلك الأمنيات، لعلها تصل يوما من الأيام، تطيل النظر، تَنطَلقُ مِنهَا الشَهَقَات عندما يأتي الظلام ويغطي النهر، يَرمُقُها العابرون بنظرةٍ ويذهبونْ، وفى كلِ يومِ تزور المكان وتجلب معها فتات خبز للطيور، فاضت دمعتها عندما اخذت تبحر في الماء تلك القصاصة الورقية التي كتبت فيها أمنيتها، فقد يأتي الربيع بعد طول اليأس وتنتعش الأوراق، في ساعات المساء تأخرت بالعودة إلى بيتها، أخذتها القصاصة الورقية إلى مكان بعيد ً، تلهث انفاسها وهي تسير خلف اوهام مخيفة، اقبلت نحو بيتها المحاط بالحدائق المنمّقة، تطأطئ رأسها من الخجل، القت بالتحية على زوجها، انحنت بلا شعور على قدميه قائلة، قلبي يحدثني ,أن حلمنا سيتحقق عن قريب فهذه المرة الأولى التي يستجيب فيها النهر، تقدم نحوها ليضمها، وفي قلبه الحزن و الحيرة، فحالها يزداد سوءا يوما بعد يوم، متعلقة في بحار الحلم، فإذا هي ككل مرة تأخذها على ضفاف امواجه، تغرق بوعود النهر جوف صخرة منسية تقف تلك الأمنية، يرتديها العدم، يحيط به التجمد.
اليوم عاد الموج من جديد ليأخذ أمنيتها، تحمل البشرى بعد وقوفها في ممر الحائرين مع القدر، تلوح امام ناظريها احلام، رأتها يوماً مستحيلة واليوم.. بعد غياب الاسابيع والشهور، هاهي تحققت، جاءت اليوم لتخبر النهر قائلة فإذا انت كما كنت أظن تسعدني في رأيك وتلبي حاجتي، وً ملجئي وملاذي، كان النهر المحطة التي توقفت عندها كثيرا،
ذهب القلق الى حيث لا رجعة، قبلت يدها حامدة لله على هذه الهدية، تحت تأثير الخوف، بصمت تعد أيامها خوفا من موت أمنيتها، تقدمت بفرحة يملؤها الخوف من المستقبل، تبتلع رمق الآسى : رباه لك الحمد، منحتني تلك الفرحة لم ينقطع بك الأمل.
اليوم عاد الفرح يملأ المكان، سرقتها لحظات الفرح أمام هذه الكلمة (انت حامل) تصطك أسنانها، وتدمع عينيها، وترتعش أقدامها، خرجت الحروف ضائعة.
بعد فجر طويل تنفس الصبح بخبر حملها، بعدما عجز عنها الأطباء، ويأس منها الزوج والاقرباء، عملت كل ماقالوا لها، حتى وصفوا لها طب العجائز، ذهبت إلى امرأة كبيرة في العمر ارشدتها اليها أحدى الاخوات، لقولها (( انت عندك تابعة)) وعليك الذهاب إلى تلك المرأة لتقوم بتغسيلك بماء الميت، ودفن الشمعة في مقبرة ليموت قرينك، وبعدها تنجبين صبيان وبنات، سقط رأسها بين النساء الجالسات عند هذه المرأة...لم تصدق ما رأته امرأة متعلمة مؤمنة ماذا تفعل هنا؟! وما هذه الخرافات، فالله سبحانه وتعالى جعل لنا طرق كثيرة وأبواب لطلب الحاجة تصبر نفسها بنفسها كم من نبي لم تكن لدية ذرية أين أنا من زكريا، وحتى الأئمة الأطهار اختبرهم الله أليس الإمام الرضا صبر أربعين عاما حتى رزقه الله بولد، لم ترد على كلامها خرجت مسرعة نحو بيتها، لاتشكِ لأحد ولاترد عليهم، النهر هو من كان يسمع صرخاتها، ويضمد جراحها، كتبت عريضة وطلبت من صاحب الماء أن يقضي حاجتها ويحقق أمنيتها، بعيدا عن التعويذات والاسحار،
فعند سماعها خبر حملها طرق قلبها متألما خوفاً من تكرار سقوط حملها، لاتنسى طيوفهم لايتجاوزون العشرة أسابيع ويسقطون، لكن هذه المرة جنينها أكمل ثلاثة اشهر بسلامة، جالسة على كرسيها المدولب تتأمل النهر وبيدها قماش ابيض تطرزه لطفلها، عكس نور الشمس على وجهها الوردي، فازدادت جمالاً، الأيام بطيئة جدا بدأت علامات الحمل تظهر عليها، فرحتها انستها كل الهموم والأحزان، تصقل أيامها بانتظار الولادة، لا تحمل شيء ثقيل، تسند ظهرها، كان التحذير شديداً، خوفا من سقوط الجنين.
كانت على موعد مع الطبيبة عند الخامسة عصراً، انتظرت عند العيادة، انتظرت طويلاً..
حتى جاء موعدها، كانت اصوات همس وتأوه يتناها الى سمعها، الطبيبة متسائلة ماذا لو علمتي أن جنينك مات، أظلم المكان، يا لقهرَ النظرةِ الأخيرةِ في فرحة لم تكتمل!
يا ضياعَ العمر وصبر السنين، توقف نبض جنينها، بعد موت طفلها أصبح كلّ شيءٍ بطيئاً أصبحت الدّقائق والسّاعات حارقةً، تمشي وحيدة والدموع تذرف، كحمامة ذبحت، كان صغيرا جدا عندما أجهضت، الألم شديد وصرخات اعتلت من أم فقدت طفلها،.. كان حلم وتشتت، كيف أضمك إلى صدري ياولدي وقد قطعوك، تريد حضنا يلملم ما بعثرته الأيام، ولتضمد كل الجراح، أجترارُ النوحِ وبوح الصراخ، شعرت بحرقة.. بألم.. اعتصرها الهم!
بين جوانبها نار تسري.. حسرة على جنينها الذي لم يولد بعد، كانت لاتزال في مكانها ذاك، تبكي.. تتضرع منكسرة! غاضبه ساخطة تحاول رسم ابتسامة كاذبة، سرعان ما تذوب مع الحزن، تهدأ بقول لعل هذا الجنين يكون شفيعا لي يوم القيامة، سقط مواساة لأهل البيت عليهم السلام، كحال محسن السقيط كحال أطفال الحسين، الحمد لله على ماوقع وله الشكر على ما حل، ليس بيدنا حيلة، قدر الله وماشاء فعل، مهما حاولت ان تحافظ على جنينها ولم تترك دعاء أو تعويذة الا وحملتها لكن الله يفعل مايريد، في النهاية أصبح الأمر واضحاً، انت تريد وانا أريد والله يفعل مايريد.
اضافةتعليق
التعليقات