يعد البقيع من أهم البقع المباركة التي نستطيع من خلالها دراسة التاريخ الإسلامي وحضارته العريقة، فكل شخصية رقدت فيه جسدت لنا جانباً مهمّاً من جوانب بناء الحضارة الإسلامية بل إن الأئمة كان لهم دور بارز في تلك البقعة حيث كانت مركز علمهم وعلومهم ودار عبادتهم ومحور حديثهم.
فكل إمام كانت له مكانة خاصة ومركز خاص من ناحية العبادة وارشاد الناس وبيان الحق وتوضيح العقائد، فالإمام الباقر مثلاً كان له دور رئيس في زمانه، فكان فلك الزمان يتخذه قطبا والمسلمون إليه ينجذبون ومنه يصدرون وحوله يطوفون وينهلون من علومه، فكانوا بحق مجدّدي الإسلام وحافظيه من الضياع وببركتهم اتسع الإسلام وعظم حتى أصبح أقوى وأعظم دولة في العالم.
ومن ثم تلاه الامام جعفر الصادق عليه السلام فتوسعت دائرة العلوم والمعارف وأصبح العلماء يجلسون عنده وتصبح حلقتهم الدراسية كهالة محيطة بالقمر في ليلة كماله.
ولأن للبقيع دور مهم في حياة المسلمين عامة, فقد تعرضت للمساس بها من قبل الطغاة الظالمين منذ عهد إمامة إلامام الحسن عليه السلام، فقد ذكر في حديث المناشدة التي جرت بين الامام الحسن عليه السلام ومعاوية حيث روي عن الإمام عليه السلام أنه قال:"أنشدكم بالله أتعلمون أن أبا سفيان أخذ بيد الحسين عليه السلام حين بويع عثمان وقال يا ابن أخي اخرج معي إلى بقيع الغرقد، فخرج حتى إذا توسط القبور اجتره فصاح بأعلى صوته: يا أهل القبور الذي كنتم تقاتلونا عليه صار بأيدينا وانتم رميم. فقال الحسين بن علي عليه السلام: قبّح الله شيبتك وقبح وجهك ثم نتر يده وتركه، فلولا النعمان بن بشير أخذ بيده ورده إلى المدينه لهلك".
إذاً فالحقد والضغينة على البقيع الغرقد لم يكن وليد عصره بل هو متأصل في أعماق الكافرين الذين دخلوا الإسلام صورياً من أجل كسب السلطة كما بينا في قول أبو سفيان.
وبعد أن مرت السنون وتوارث الحقد على أهل البيت عليهم السلام في قلوب الجهلة الظالمون ظهر الفكر الوهابي حاملاً معه جذور الحقد من الناكثين والقاسطين والمارقين فقام بتكفير المذهب الشعي بحجج واهية لا تمت للاسلام بصلة فتبعه العديد ممن شربوا حليب الجمل وخرجوا من صفين برفع المصاحف وتواجدوا في النهروان ضد أمير المؤمنين علي، فلم يكتفوا بتكفير الطائفة الشيعية بل قاموا بتهديم قبور البقيع الزاهية.
فقد جاء في الخبر أن البقيع تعرضت للهدم مرتين الأولى عام 1220هـ كانت الجريمة التي لاتنسى، عند قيام الدولة السعودية الأولى حيث قام آل سعود بأول هدم للبقيع وذلك عام 1220 هـ وعندما سقطت الدولة على يد العثمانيين أعاد المسلمون بناءها على أحسن هيئة من تبرعات المسلمين، فبنيت القبب والمساجد بشكل فني رائع حيث عادت هذه القبور المقدسة محط رحال المؤمنين بعد أن ولى خط الوهابيين لحين من الوقت.
ثم عاود الوهابيون هجومهم على المدينة المنورة مرة أخرى في عام 1344هـ وذلك بعد قيام دولتهم الثالثة وقاموا بتهديم المشاهد المقدسة للأئمة الأطهار عليهم السلام وأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله بعد تعريضها للإهانة والتحقير بفتوى من وعّاظهم.
فأصبح البقيع وذلك المزار المهيب قاعا صفصفا. ذلك المكان الذي أشارت المصادر إليه أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما أحس بالمرض الذي عراه أخذ بيد علي بن أبي طالب واتبعه جماعة من الناس وتوجه إلى البقيع فقال للذي اتبعه: (إنني قد أمرت بالاستغفار لأهل البقيع)، فانطلقوا معه حتى وقف بين أظهرهم وقال: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وأتاكم ما توعدون، غدا مؤجلون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد، اللهم لاتحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، أنتم لنا فرط ونحن لكم تبع، نسأل الله لنا ولكم العاقبة". ثم استغفر لأهل البقيع طويلاً.
فما بال قوماً يدعون الإسلام يُعارضون النبي في زيارة قبور البقيع بل يؤذونه أيضاً بهدم قبور ذريته. لا شك أن قلوبهم المريضة لا تستوعب عظمة تلك المراقد وسينظرون بأم أعينهم القباب التي ستعلوا قريباً حيث تعانق نجوم السماء وتُشيد تلك الأضرحة بيد مخلص الأمة من الظالمين وطالب ثأر الأطايب المُطهرين المهدي المنتظر عجل الله فرجه الشريف وستحلق أرواحنا قبل أجسادنا لزيارة تلك البقة المباركة.
اضافةتعليق
التعليقات