عندما كنا صغارا قيل لنا: لا تجلسوا في الظلام، ولا تبقوا لوحدكم في غرفة مظلمة فالشيطان موجود وصديقه الجن الازرق كذلك سيتلاعبون بكم ويتلبّسونكم ان جلستم في الليل الهندس!.
وكبرنا وكبرت مداركنا ولم نعد نصدق بكل تلك الترّهات التي قيلت لنا.
فمع هدأة العيون ونوم الجفون وسكون المكان، ومع خفوت الضجيج وانسدال ستائر الليل البهيم، تحلو الرفقة مع رب الاكوان، ويطيب اللقاء مع خالق النور والظلام، حيث تتربع الارواح المثقلة بالاوزار في ساحة القدس الالهية، وتستريح النفوس بعد عناء الحياة اليومية وصخبها الدائم، فتركن الى ذكر الاله الذي يفتح ابواب سمائه للراغبين والطالبين والداعين وللمستغفرين في الاسحار.
رب كريم لم ولن يغلق بابه بوجه عبيده وإمائه، ولمَ يغلقه؟!
اليس هو القائل لملائكته في الحديث الشريف: (انظروا الى عبدي قد تخلّى بي في جوف الليل المظلم، والباطلون لاهون والغافلون نيام، اشهدوا اني غفرت له).
وقد قال رسول الله (ص): اذا قام العبد من لذيذ مضجعه والنعاس في عينيه، ليرضي ربه عزوجل بصلاة ليله، باهى الله به ملائكته فقال: اما ترون عبدي هذا قد قام من لذيذ مضجعه، الى صلاة لم افرضها عليه.. اشهدوا اني قد غفرت له).
هذه المغفرة كتبها الله سبحانه وتعالى على نفسه للتائبين، فهو الرحمن الرحيم (كتب على نفسه الرحمة) فما على العبد سوى الطلب واظهار الحاجة والتذلل لمن بيديه مفاتيح الحاجات كلها.
اما استنزال المغفرة الالهية فلا تكون بلا دعاء لانها سنّة الله في عباده، "وقال ربكم ادعوني أستجب لكم" دعوة منه تعالى لعباده إلى دعائه ووعد بالاستجابة، وقد أطلق الدعوة والدعاء والاستجابة إطلاقا.
عندما يتوجه العبد الى الله في جوف الليل ما عليه سوى ان يتعرى عن ثياب الغفلة وينزع عن نفسه اهواءها وشهواتها وما طوقّتها من اغلال الحقد والحسد والضغينة.. ويُقبل بقلبه وليس بجسده فقط، وينفتح على الله بكل كيانه وجوارحه، ويُشعر قلبه الرهبة والرغبة معا، وينغمس في لذيذ المناجاة مع رب رحيم، فيستشعر الرحمة النازلة حينها وهي تحفّ به من كل جوانبه.
امام هذه الرحمة الربانية المهداة لا ذنب يبقى هناك، ولا اثر لمعصية ولا وزر يعكر صفو الروح ولا هم يحزنون.
انها الرحمة تفعل فعلها في كيان ابن آدم، اذا انفتح بكلّيته على الله، وناجاه بقلب كسير.. فهو عزوجل عند المنكسرة قلوبهم.
فالى الذين لا زالوا متردّدين في احياء ليلهم، والغافلين عن عظيم الثواب، والمتهاونين في طرق باب الكريم في الليل اذا عسعس، والمؤثرين دفء الفراش على دفء اللقاء ونفحات الوصال اقول لكم: لا تضيّعوا الفرصة فتندموا، فلا تعلم نفس ما أُخفي من نعيم للصافيّن اقدامهم في جوف الليل يصلّون ويركعون ويسجدون، ولا تعلم نفس ما خبّأ الله للداعين من ثواب ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.. انه وعد الله الذي اذا دُعي أجاب، واذا أُسترحم رحم، فلا تكونوا من الذين يُعرضون بوجوههم ويستنكفون عن طرق باب المولى عز وجل، فانّ الخير كل الخير في قيام الليل، والتعرّض لنفحات الرب في السحر.
قال تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً}.. وكما جاء في التفسير انّ (ناشئة الليل إشارة إلى مجمل الليل، فالذي يريد صفاء القلب، والتوجه المركز إلى جهة العرش عليه بصلاة الليل.. يقول تعالى في آية أخرى: {إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا} وكأنه في هذه الآية هناك عتبٌ مقدر أي: أيها الإنسان!.. أنت تنام في الليل، وتعمل في النهار؛ فأين حق الله عز وجل؟).
وكل شيء في هذه الدنيا اما ان يتركك او ان تتركه الا الله، ان أقبلت اليه أغناك، وان تركته ناداك، فسبحانك ربي ما أكرمك.
فاذا كنا ممن يحفظون حق الله سبحانه، فما علينا سوى اجابة النداء.. فان الله لا زال ينادي:
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
اضافةتعليق
التعليقات