حينما كتبت مقال خطبة الوداع، منذ بضعة أشهر، بدأته بأننى لست ضليعة فى الخلاف القائم بين السُنة والشيعة، ولست طرفا فيه لعدم إهتمامى بمعرفة تفاصيله، ففى نظرى كلنا مسلمون نؤمن بالله عز وجل، ونؤمن بكتابه الكريم، وبرسوله صلى الله عليه وسلم وآله أجمعين. وهى دعامة أساسية تفتقر إليها الرسالتان التوحيديتان السابقتان، لكثرة ما ألم بها من تغيير وتبديل وتحريف يكشف القرآن الكريم مختلف تفاصيلها كشفا لا ريب فيه، ويحذرنا كل التحذير ألا نقع فيها!..
وكل ما همّنى هو التركيز على أهمية هذه الخطبة التى تمثل تلخيصا بليغا لأهم تعاليم القرآن الكريم، وأولها أن دم المسلم محرّم على المسلم. فقد ساوى الرسول، صلوات الله عليه، هذه الحرمة مرة بأهمية يوم عرفة، أى أنها كأحد أركان الدين الخمسة. وساوى هذه الحرمة مرة ثانية بالكفر، أى أنها اسوأ ما يمكن لمسلم أن يقع فيه..
ومنذ أيام، علمت من نشرة الأخبار مساء بنبأ وفاة الفقيه العالم آية الله محمد رضا الشيرازى، أسأل الله له الرحمة وأن يجعل مثواه الجنة، ولم تكن تربطنى به سابق معرفة. وفى صباح اليوم التالى فتحت التلفاز لمتابعة الأخبار على قناة الأنوار، وما أن بدأ الإرسال حتى طالعنى وجهه الكريم وكان تسجيلا لدرس لم أسمع منه إلا آخر ربع ساعة بكل أسف، لكنها كانت كافية لأدرك منها عظمة الإنسان، وهدوء نفسه، ووضوح التعبير ببساطة وتمكّن، وخاصة رهافة حس يديه رحمه الله، فاليد فى نظرى كفنانة مكملة لتعبير الوجه وكاشفة مثله.. كان يتحدث عن النفس ورقيها. فتمنيت فى صمت : ليت كلماته وتعاليمه تبقى لتتواصل فى الأجيال وألا تتوقف مع هذه الإحتفالية الرهيبة فى تدفق مشاعرها..
وبعد العصر تابعت مراسم الجنازة على نفس القناة.. ويا له من مشهد رهيب لا يُنسى، رؤية بحر بشرى يموج بأحزانه ونحيبه، تتسابق فيه ما يزيد عن المليون نسمة لتكون فى وداع معلم يشهدون له بسعة العلم والأخلاق، معلم بكته كل الأعمار!.. مشهد لا ينسى ولا يمحى من الذاكرة..
وفى محاولة منى لمعرفة المزيد عنه أو عن الحياة اليومية والثقافية لإخواننا فى العراق، فكل إنشغالى بكل أسف محصور فى متابعة المؤسسة الفاتيكانية بتفريعاتها والسياسة الغربية الجائرة فى ظلمها، ومحاولاتهما المستميتة لإقتلاع الإسلام والمسلمين ـ وهو ما يبتلع وقتى بكامله! ففتحت أحد مواقع شيعة الموصل، ولفت نظرى إعلان باللون الأحمر عن فتنة جديدة!. فبدأت بها، ويا لهول ما قرأت ويا لهول ما وصلنا إليه!
وثيقة وقّع عليها إثنين وعشرين من علماء أرض الحرمين الشريفين، وتبدأ، ويا لغرابة ما تبدأ به بوضوح : ان فرق الشيعة تكونت منذ عهود متطاولة بفعل بعض اليهود!! وعلى الفور تساءلت بما ان الموقعين على هذا القول يعرفون انها وقيعة من اليهود ـ وما أكثر ما قام به اليهود ولا يزالون، لماذا نسمح باستمرار الوقيعة ؟! لماذا نسمح باستمرارها وهى ككرة الثلج كلما عُبث بها ودُحرجت على الجليد تراكمت عليها الثلوج فتنتفخ وتتزايد إلى ما لا نهاية حتى يصعب أو يستحيل التعامل معها من حجمها!!
ولا أقول هنا شيئا عن مستوى الأسلوب وكل ما به من اتهامات وتجريح أو خلط وتخليط بين الحاضر والماضى، وهالنى ان أجد مثله، وإن قل أو زاد، فى الردود التى صاحبت التعليق على الوثيقة!.. وأسكت عما رأيته فى التجول بين عدة مواقع أخرى.. أصابتنى غمة هى مزيج من المرارة والغثيان والخجل، أن أرى بعيناى المستوى المتدنى الأليم الذى وصلنا إليه كمسلمين، نحن، نحن من قال الله سبحانه وتعالى فينا : كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس ( آل عمران/110)..
ونظرا لكل ما ألاحظه يدور حاليا بين المسلمين من شقاق وتنافر وإقتتال، لا يمكن لعاقل ان يقره أو أن يقبله، إذ لا يستفيد منه سوى التعصب الصهيونى و المسيحى، اللذان غرساه بين شعوبنا، فلا أملك سوى أن أذكّر المسلمين بآخر أقوال سيد الخلق لنا فى خطبة الوداع التى أعلن بعدها قائلا : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا (المائدة/3).. وهى خطبة هامة حاسمة إن لخصنا أهم ما جاء بها نجد : تحريم دم المسلم وماله على المسلم إلى يوم الدين، تأدية الأمانة، ثم عبارة وإنما المؤمنون أخوة وهو نص قرآنى يستشهد به ويُبلغه حامل الرسالة الإلهية، فكيف للإخوة أن تتقاتل وتتبادل الاتهامات والقدح كالأعداء، أيا كانت الأسباب وأيا كانت فداحتها أو صغرها ؟! بل ومرة ثالثة يؤكد سيد المرسلين، صلوات الله عليه، على جُرم تقاتل المسلمين قائلا محذراً بوضوح :
لا ترجعن بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض.. و ترك لنا كتاب الله لو عملنا حقا بما أنزل فيه لما اجتاحتنا رياح الفرقة ولما كفرنا بنعمته علينا!
إن مصيرنا جميعا إلى التراب، وإن أكرمنا عند الله هو أتقانا، وأنه لا فضل لأى أحد على الآخر إلا بالتقوى. فهل التزمنا بما أنزله الله إلينا وبكل كلمة فيه ؟ هل التزمنا بالأمانة التى حمّلها الله عز وجل لنا، و وردت ضمن وصايا الرسول عليه الصلاة والسلام، وراعينا حرمة الدم بيننا ؟ هل راعينا الأمانة ؟ أمانة التعريف بالإسلام فعلا وأمانة الدفاع عنه ؟ لو كل إنسان أجاب بصدق على هذه الأسئلة لخجلنا.. وأى خجل.. بل ويا لهول خجلنا من رسول قام بتحديد معالم الطريق، واستأمننا على الرسالة واستشهد الله علينا أنه أبلغها، فكيف سنلقى ربنا ؟! كيف سنلقاه بتقصيرنا وبتمسكنا بالهوامش الجانبية والمزايدات عليها ـ أيا كان حجمها وأيا كان عمقها التاريخى، وبتركنا لثوابت الدين وثوابت تعاليمه ؟!
واليوم، طالعت الجزء الذى خصّته شبكة شيعة الموصل الثقافية للفقيه الراحل، وكم فوجئت وتأثرت بمشاهدة صورة لورقة صغيرة، عليها آخر ما خطه بيده الكريمة عشية وفاته، وكأنه يعلم باقتراب الساعة، فراح يحمّل الأجيال خلاصة حياته، مرددا نفس ما كان قد خطه النبى صلوات الله عليه : إنى تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتى ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا (25 جمادى الأول 1429)..
وترتفع الصيحات فى الجوف.. أما حان الوقت لنفيق من ترّهات هى فى نهاية المطاف أو بلغة العصر صراعات على السلطة بكل تراكماتها، ونعمل بوصية عزيزة أوصانا بها الرسول صلوات الله عليه، وأعاد تكرارها بالأمس القريب فقيها عالما قبل الرحيل.. عبارة وكأنها تمثل مشوار المسلمين ومسيرتهم، وكل ما أوصى به عقلاء الراحلين من بعد الرسول الأعظم، ولا أخاله يختلف عن نفس هذه العبارة : التمسك بكتاب الله وبمكارم الأخلاق..
صيحة من قلب مسلمة عصفت به فداحة الواقع وسواده.. واقع المسلمين فيما بينهم، واقع الإخوة فى الدين وفى الرسالة والهدف، وقد تكالبت عليهم الفتن بسبب الإنقسامات المفتعلة السائدة بينهم، حتى بات البعض ـ من الضياع، يسهم مع الغرب فى اقتلاع الإسلام بيديه جهلا منه أو مرضاة لذلك الغرب الغاشم التعصب..
فهل ذلك هو ما نبغاه حقا ونرضاه لدين الله ؟! أم نعتصم بالله، ولا نكون كالذين تفرقوا من بعد ما جاءتهم البينات، وننفض عن كاهلنا عوالق الماضى، لنعيش معا قوله تعالى :
وإنما المؤمنون أخوة ، نتكاتف لتأدية الأمانة دفاعا عن الإسلام الذى تم الترتيب لإقتلاعه أقرب مما تتصورون!..
ليت السواعد الأمينة القادرة على الفعل تمتد، وتصفح، وتتصافح، لترسيخ كلمات وجهود رسولنا الكريم، رائد الحضارة الإنسانية، وكل من تبعه من العلماء الصالحين، حتى لا تضيع رسالته هباء وتذروها الرياح..
اضافةتعليق
التعليقات