إن وجود الأب في حياة الأطفال، يعني الحماية والرعاية، يعني القدوة والسلطة والتكامل الأسري، فالأطفال بحاجة إلى أن يشعروا بأن هناك حماية ورعاية وإرشاداً يختلف نوعاً ما عما يجدونه عند الأم، وبأن الأب هو الراعي الأساسي للأسرة، وهو المسؤول عن رعيته، فوجود الأب كمعلم في حياة الطفل، يعتبر من العوامل الضرورية في تربيته وإعداده..
بالرغم من أن الأم هي الأساس في حياة الطفل منذ الولادة، إلا أن دور الأب تبقى أهميته من نوع آخر، وذلك من خلال تقديم الحنان الأبوي، والسهر على حياة الطفل وحمايته من كل أذى، بالتواصل معه والتقرب منه، فينمو الطفل ويكبر على أسس تربوية سليمة، فالأدوار التي يقوم بها كل من الأب والأم مهمة جداً في الإنماء التربوي للطفل، رغم اختلافها.
يعتبر الأب العمود الفقري للأسرة، لكن قد تلغي بعض الأمهات دوره المعنوي وتحصره في التمويل، فما هي عواقب تهميش دور الأب ومن أين يأتي هذا التهميش؟ فالأب له أهميته في حياة أبنائه مهما كانت عيوبه أو سلوكياته أو نقاط الخلاف بينه وبين زوجته، والأم الذكية هي التي تستطيع أن تعبر بأبنائها إلى بر الأمن والأمان والاستقرار النفسي والعاطفي من دون ترك شرخ في أنفسهم.
خارج الخدمة للإضاءة أكثر على الموضوع، تقول الاستشارية التربوية وخبيرة التدريب الدكتورة إيمان صديق إن الأب يكد ويشقى لتوفير لقمة العيش والرفاهية لأبنائه وزوجته، ويترتب عن هذا الدور غياب الأب عن المنزل لفترات طويلة، ويصبح في الحقيقة غريبا في بيته الذي يحل عليه ضيفا لساعات قليلة يأكل فيه أحيانا وينام، كما أصبح آخر من يعلم بالقرارات التي يتخذونها في غيبته، سواء في اختيارهم لملابسهم أو لأصدقائهم أو في تحديد مصائرهم بالتعليم أو حتى فيما يرتكبونه من أخطاء كلها أشياء وأحداث يعايشونها مع أمهم لحظة بلحظة والأب خارج نطاق الخدمة، مضيفة: «نعترف أن الأب في هذه الأسر أصبح دوره مجرد بنك للتمويل، ولنسأل أنفسنا عن المسؤول عن هذه الظاهرة هل الأم وحدها؟ أم الأبناء وحدهم؟ أم الأم وأبناؤهما معاً؟ أم الأب نفسه بتنازله عن دوره الحقيقي بين أهل بيته؟ وتضيف صديق: إن من أسوأ ما واجهته كاستشارية أنها رأت الأم تتعمد أن تعزل أبناءها عن أبيهم وكأنها تريد أن تقوم بدور الأم والأب معاً، وتقول: «أصبحت هناك فجوة حقيقية بين الأبناء وأبيهم، وبعض الأمهات بدلا من أن تقوم بدورها الحقيقي في التقريب بين الأبناء وأبيهم، فإنها في بعض الأحيان أصبحت تهدم بيتها بيديها بتهميش دور الأب، ولا تدرك الأم خطورة الموضوع».
وتشير إلى أنه من الطبيعي أن تكون الأم مستودع أسرار أبنائها والأقرب لأنفسهم وعقلهم وقلبهم، ولكن ذلك لا يغني عن دور الأب في حياة أبنائه وحاجتهم له، ومهما كانت حقوق الأم على أبنائها فلا يحق لها أن تستقطبهم إليها على حساب ارتباطهم بأبيهم.
توازن الطفل
تلقي صديق مسؤولية تهميش دور الأب على الأب نفسه، وتوضح «يشترك الأب أيضا مع الأم في المسؤولية، فالأب ذاته الذي فرط في دوره لصالح الأم وقد أعطاه الله حق القوامة عليها والأسرة كلها، وهي مسؤولية أمام الله أشار إليها رسول الله صلى الله عليه وآله سلم بقوله: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»، ومهما كانت مسؤوليات الأب فإنها لا تعفيه من المسؤولية الأسرية والتقصير في حق نفسه أولاً ثم في حق أبنائه وأسرته»، مضيفة: «يعتقد البعض أن دور الأم أكثر أهميّة في حياة الطفل من دور الأب، بينما الواقع يؤكد أن دور الأب يحمل الأهميّة عينها، إذ إن أصول التنشئة السليمة تقتضي وجود الأب والأم أثناء تطوّر الطفل ونموّه.
ويتّضح هذا الدور عند غياب الأب، حيث يصبح الطفل خارجاً عن السيطرة، وتقع تربية الطفل على مسؤولية الأب والأم معاً، ولا يغنى أحدهما عن الآخر، وإذا تخلّى أحد هذين الطرفين عن مسؤوليته، فإن ميزان المنظومة التربوية سيختلّ بالتأكيد». وتفيد صديق بأن حنان الأب يجنب الطفل الشعور بالقلق والخوف، ويزيد من إحساسه بالثقة بالنفس وتقدير الذات ويحدّ من شعوره بالعدائية، مضيفة «من خلال التوجيه الأبوي القائم على النصح والإرشاد، وتقويم الأخطاء يتكوّن الضمير والمثال الأعلى للطفل». وتوضح: «إذا تعرّض الطفل لغياب الأب بشكل دائم، فقد يحدث له إعاقة في النمو الفكري والعقلي والجسمي، خصوصا إذا كان هذا الحرمان من الأبوة في السنّ التي تتراوح ما بين الثانية والسادسة، لأن تطور الطفل بشكل سوي يتطلب وجود الأب، فهو الحامي والراعي والمسؤول عن توفير الاحتياجات الضرورية للطفل في هذه المرحلة المهمة من حياته».
مشيرة إلى أن للأم دور مهم في التقريب بين أفراد الأسرة فهناك ارتباط نفسي غريزي بين الأم وأبنائها يخفف من حدة التوتر داخلها، خاصة بين الأب وأبنائه إذا حدث احتكاك، وهي تعيد العلاقات النفسية بينهم إلى سابق عهدها». سلطة وسيطرة عن مكانة الأب في حياة الطفل، تورد الصديق أنه منذ قديم الأزل والأب يرتبط دوره ومكانته النفسية لدى أبنائه بالسلطة والضبط والسيطرة والردع النفسي، كما أن الأم تحتوي أبناءها نفسيا إذا تعرضوا لمشكلات سواء داخل الأسرة أو خارجها، لكن أحيانا قد يحدث أن يتضخم دور الأم فتتدخل في كل شؤون أبنائها ما يخلق ارتباطا نفسيا قد يراه الأبناء تعويضا عن دور الأب وهو وضع غير مقبول، فإذا كان متعمدا من بعض الأمهات فهو دليل على عدم اتزانها النفسي وأنها تعاني من الأنا داخلها، وتصبح النتيجة الطبيعية وجود جو نفسي غير صحي داخل هذه الأسر لأن ذلك يؤدى إلى تفتيت الروابط الأسرية.
وتتابع: «إذا افترضنا حدوث هذه الظاهرة داخل أسرة معينة فإنها لا تحدث لدى الأبناء جميعهم وبدرجة واحدة، لأن بعضهم قد يشفق على الأب ويحدث رد فعل عكسي في صورة ميل نفسي نحو الأب بالتعاطف معه».
وعن أهم أسباب هذه الظاهرة، توضح صديق أنها تتمثل في ظروف الحياة التي أوكلت للأب منذ بداية الحياة البشرية مهمة الكد والتعب لتوفير لقمة العيش للأبناء والأم، يقابله بقاء الأم في منزلها ما يخلق ارتباطا إنسانيا اجتماعيا بينها وبين أبنائها ويدعم من الارتباط المادي والغريزي الذي كان خلال مرحلة الحمل والرضاعة، كما أسهم التليفزيون والفضائيات في خلق وانتشار هذه الظاهرة بالترويج لصورة الأب القاسي والمهمش داخل أسرته، بعكس الأم الحنون التي تعتبر غطاء وسترا لأبنائها، ملخصة «الأصل هو توزيع الأدوار الاجتماعية والأسرية بين الأم والأب مع تكامل دوريهما، لكن أحيانا مبالغة الأم في علاقاتها الأسرية بأبنائها تفرض نوعا من العزلة الأسرية تجاه الأب في بعض الأمور الأسرية، وقد أشارت نتائج البحوث الاجتماعية إلى أن أكثر الأسر معاناة من التفكك الأسري هي التي تسود فيها ظاهرة استقطاب الأبناء للأم غالباً».
تجنب الأخطاء
تنصح صديق الأمهات بتجنب أخطاء قد ترتكبها وتؤدي إلى تهميش دور الأب ما ينعكس على الأسرة، وتقول عن الأخطاء التي يجب تجنبها أنها تتمثل في هذه العناوين «الاتفاق بين الوالدين على رعاية الأم للأبناء في كل صغيرة وكبيرة، وتفرغ الأب لتوفير احتياجات الأسرة المادية. إخفاء الأم لأخطاء الأبناء عن الأب خاصة الأخطاء الفادحة. تلبية الأم لجميع رغبات الأبناء وشراء كماليات لا أساسيات دون موافقة الأب أو علمه مثل الهواتف المحمولة والألعاب وأجهزة الحاسوب الحديثة».
وعن أبرز تعليقات الأمهات عن الآباء لتبرير تهميش دور الأب، تقول صديق من خلال تجاربها المهنية إن هناك الكثير من التعليقات، كأن تقول بعض الأمهات
«أقضي يومي كاملاً في توجيه وإرشاد وتربية الأبناء ويأتي الأب في نهاية اليوم ليفسد كل ما فعلته بتدليله المفرط للأبناء» أو «أتعب وأشقى واجتهد في تربية الأبناء ومتابعة دروسهم وتنظيم يومهم دون كلل أو ملل أو مساعدة من الأب، ولكنني أحزن حينما أشعر بأن أبنائي يميلون لوالدهم وليس لي، ألعب دائماً دور الوحش الكاسر الذي ينقد ويوبخ ويصرخ ويدفع للمذاكرة والنوم، ويلعب زوجي دور العطوف الحنون اللطيف الظريف مع الأبناء» أو «زوجي دائم الصراخ على الأبناء ودائم النقد والتوبيخ على كل صغيرة وكبيرة، لذلك أحاول تهميش دوره بالمنزل» أو «زوجي يصر على أن يشاهد أبنائي التليفزيون أو يستخدموا الأنترنت بدون رقيب إيماناً منه أننا في زمن منفتح ولابد لهم من الاحتكاك بكل الخبرات». وتضيف صديق «هنا لابد أن نلفت نظر الأم إلى أنه أيا كانت مشكلتك مع الأب أو رأيك في طريقة تعامله مع الأبناء أو سلوكه الشخصي، لا يمكننا تهميش دوره أو الاستغناء عنه، ولكن يمكن اللجوء للتغيير على المدى الطويل أو استخدام أسلوب الحوار والنقاش الهادئ أو التوجيه غير المباشر بدون نقد أو لوم أو توبيخ أو إعادة تنظيم لوقت الأبناء والأب أو تجنيب الأبناء للاحتكاك المباشر مع الأب في أوقات غير لائقة وغيرها من الأساليب التربوية الصحيحة».
تعميق شعور الطفل بجنسه
تؤكد صديق أنه على الأم أن تفهم حاجة الطفل للأب لتعميق شعوره بجنسه، حيث يعتمد على والديه اعتمادا وثيقاً في إدراك الدور الذكرى والأنثوي والذي لا يتم سوى من خلال وجود كل من الأب والأم داخل الأسرة. لذا، يصعب على الطفل رؤية الحياة وفقا لجنسه في حال غياب الأب، إذ نجد الطفل المحروم من الأب أكثر حساسية في مشاعره، ويتخلّل تصرفاته نوع من التردد والالتباس في تحديد دوره الجنسي. وتقول صديق "الأب يلعب دورا كبيرا في تشكيل ملامح السلوكات التي تتناسب مع جنس الطفل، فالطفل الذكر يستمد صفات الذكورة من الأب في ملبسه وطريقة كلامه ومعاملته للآخرين، ويساهم الأب في تعميق شعور الفتاة بدورها الأنثوي عن طريق معاملته المختلفة لابنته عن إخوتها الذكور وتذكيرها بما يجب وما لا يجب أن تفعله كأنثى، مما يرسخ شعور الأنثى لديها ويدعم تقبلها لذاتها، ويساعد هذا الأمر على تحقيق التوافق النفسي والاجتماعي، وهو كفيل بتعليمها ما يجب أن يكون عليه سلوكها مع زوج المستقبل".
اضافةتعليق
التعليقات