قد تبدو فكرة “ملل الخلايا” أقرب إلى المزاح البيولوجي منها إلى الفهم العلمي، فكيف يمكن لشيء بلا وعي أن يشعر بشيء معقد مثل الملل؟ ومع ذلك، إذا تأملنا طريقة عمل أجسادنا، سنجد أن الفكرة ليست بعيدة تمامًا عن الواقع. فكل خلية في جسدك هي كائن صغير يعيش حياة كاملة داخل مجتمع من المليارات، تعمل وتتكاثر وتستجيب وتنتظر أوامر لا تنتهي. لكن ماذا يحدث عندما تتكرر الأوامر دون تغيير؟ عندما تُجبر الخلايا على القيام بالشيء نفسه آلاف المرات بلا مغزى جديد؟
في علم الأحياء، يُقال إن الخلايا تميل إلى “التكيف”، أي أنها مع الوقت تتوقف عن الاستجابة للمثيرات المتكررة. هذه الظاهرة البيولوجية يمكن تشبيهها تمامًا بالملل في حياتنا النفسية. حين تتكرر التجربة دون جديد، يصبح الدماغ أقل اهتمامًا، والخلايا العصبية تُرسل إشارات أقل. وكأنها تقول: “لقد رأينا هذا من قبل.” أليس هذا نوعًا من الملل الكيميائي؟
خذ مثلاً خلية عضلية في جسد شخص يعيش حياة خالية من الحركة. يوم بعد يوم، لا يُطلب منها أن تنقبض أو تتمدد أو تُظهر قوتها. بمرور الوقت، تبدأ في الانكماش وفقدان نشاطها، وكأنها دخلت في حالة خمول وجودي. إنها لا تموت، لكنها لم تعد “حية” بالمعنى النشيط للكلمة. العلماء يسمّون هذا “ضمور العضلات”، لكن يمكننا نحن أن نسميه “مللاً خلوياً”.
الأمر ذاته يحدث في الدماغ. الخلايا العصبية تحتاج إلى تحديات ذهنية لتبقى متقدة. القراءة، التفكير، التعلم — كلها وجباتها اليومية. وعندما تُحرم من هذه الأنشطة، تتراجع قدرتها على بناء وصلات جديدة، وتبدأ في نوع من الشيخوخة البطيئة. إنها، باختصار، تصاب بالملل من صمتك الداخلي.
حتى الخلايا المناعية تُظهر سلوكاً مشابهاً. حين لا تواجه أجساماً غريبة أو تهديدات، تبدأ بالهجوم على نفسها أحياناً كما في أمراض المناعة الذاتية. كأنها تقول: “لا شيء يثيرنا هنا، فلنخلق دراما صغيرة!”
الفكرة أن “الملل” ليس مجرد شعور إنساني، بل هو حالة كونية تعمّ كل نظام يعيش في تكرار بلا معنى. فالخلايا، مثل البشر، تحتاج إلى تنوع التجارب. تحتاج إلى إشارات مختلفة، تحديات، محفزات، لكي تشعر بأنها لا تعمل عبثاً. ولهذا، حين تمارس الرياضة، أو تتعلم شيئاً جديداً، أو تخوض تجربة غير مألوفة، لا تشعر فقط بالانتعاش النفسي؛ بل إن كل خلية فيك تحتفل سراً بتلك التغيرات.
الملل، إذن، ليس عدو الحياة، بل تحذيرها اللطيف. عندما تشعر بالملل، فكر في خلاياك وهي تهمس لك: “لقد فعلنا هذا كثيراً، ألا يمكننا تجربة شيء جديد؟”
ربما لا تشعر الخلايا بالملل كما نشعر به نحن، لكنها تعرف كيف تعبّر عنه بطريقتها: بالخمول، بالتراجع، أو حتى بالتمرد. ومهمتنا نحن أن نسمع تلك الإشارات قبل أن تتحول إلى صمت دائم.
اضافةتعليق
التعليقات