من المؤكد أننا قد سمعنا الجملة الشهيرة: (الوقت يُنسي كل شيء) هذه الجملة التي تقال عند المواساة، حين نعجز عن تقبل واقعة معينة في حياتنا يخبرنا من حولنا بأن لا نقلق فكل ما علينا الآن وفي خضم العاصفة التي تعصف بنا أن نحاول جاهدين السيطرة على سلوكياتنا ومن المؤكد أن الأيام ستمر وتحل بمرورها مشاكلنا أو ننسى ما مررنا به من مواقف سلبية. فالوقت يتكفل بجعلنا ننسى ونتجاوز ونتخطى، حتى نجد أن الأمر الذي شغلنا لفترة وأنهك تفكيرنا واستهلكنا المشاعر والدموع من أجله قد أصبح سواء هو واللاشيء فلم يعد يعنينا مطلقا، وقد يصل الأمر إلى أن نجد أننا نسخر من أنفسنا كيف كنا مشغولين بشيء معين والآن قد أدركنا أنه كان مجرد شيء تافه، صغير، صغير جدا جدا، شيء لا يساوي مثقال ذرة ولو وهبته الحياة لنا مجانا لما كنا لنقبله، أو أننا قد تصالحنا مع خسارتنا ولم نعد نعتبرها محور كل شيء، أي أدركنا الألوان الحقيقية لكل ما يحيط بنا، أو مررنا به.
وعلى غرار (الوقت يقتل كل شيء) تأتي الجملة الأكثر شيوعا (تكبر وتنسى) والتي تستخدم في عدة استخدامات متباينة كالسخرية أو المزح، وما يهمنا هنا هو المضمون الحقيقي لهذه الجملة، فنوعا ما تأتي مقاربة لمثيلتها التي تتعلق بمرور الوقت وما يترتب عليه من نسيان، فعندما نكبر وبمرور الوقت نجد أن الأمر الذي شغلنا لفترة طويلة سابقا لم يعد كذلك.
وفي هذا الصدد يخبرنا عالم الأعصاب والنوم (ماثيو ووكر) Matthew Paul Walker في كتابه ذائع الصيت (لماذا ننام) بحقيقة الأمر، فليس الوقت هو الذي يؤدي إلى نسيان كل شيء وإن الأمل الذي كنا نتشبث به في نهاية المطاف ليس هو الأمل الحقيقي، فوفقا لتحليل العالم البريطاني (ماثيو) ولما استند عليه من تجارب علمية في دراساته أن (النوم يقتل كل شيء) مبيناً الكيفية التي تعمل بها أدمغتنا أثناء النوم وما تسهم به من دفع الذكريات غير المرغوب بها إلى منطقة معينة مجردة إياها من المشاعر التي كنا نشعر بها إزاء تلك الذكريات، وبهذا فإننا حين نسترجعها مرة أخرى لا نجد فيها ما يستدعي الحزن أو ذرف الدموع فما آذانا يوما ما لم يعد كذلك الآن.
هذه الحقيقة تجعلنا نترقب مستقبلا امكانية معالجة حالات الصدمات والذكريات غير السارة بوساطة أطباء الأعصاب من خلال قدرتهم على فهم آلية تعامل الدماغ الإنساني مع الذكريات غير المهمة وغير المرحب بها، وهذا ليس بالأمر البعيد فالعالم كل يوم يشهد ولادة آلاف الاختراعات الجديدة.
والحقيقة التي نتحدث عنها تقودنا إلى الوقوف على أحد تبعاتها، فحين يتمكن الأطباء من السيطرة على ذكرياتنا ومنعنا من الحزن لا يعد بإمكاننا التعرف على الأصدقاء الذين سيقفون معنا بعد الصدمات ونتيجة لذلك نفقد الفرصة التي كانت متاحة لنا لتمييز الناس والتمسك فقط بمن بقى، وثبت، وأصر على قربنا رغم كل ما مررنا به، كما أننا سنجد انفسنا أمام فكرة مرعبة وهي أننا سنستبدل بأطباء اخصائيين عندما يمر أصدقائنا بأزمة تحتم وقوفنا بقربهم حسب المجرى الطبيعي للأمور، وأنه لم يعد بإمكاننا الاستماع لتذمرهم أو شكواهم فكل شيء سينتهي عند الطبيب ونحن لا شأن لنا به.
أما عني أنا شخصيا فحين أتصفح ذكرياتي والعواصف التي مررت بها فأجد أن أهم تغير حدث لي في الرابعة عشر من عمري أي سلسلة العمليات التي كنت أجريها أجدني دائما نائمة بعد كل شيء، وقبل كل شيء، لابد أن تجد للنوم وجوداً عندي، حتى كان من يراني يستغرب عندما يعلم أنّي متفوقة في دراستي، وذلك بناء على الربط السائد بين النوم، وانخفاض مستوى الذكاء؛ وعلى ما يبدو أن النوم كان وسيلتي التي لا أدركها لنسيان عدم تمكني من الرؤية مرة أخرى، وليس هذه الحالة الوحيدة التي مررت بها فلدي مثيلاتها التي لا يسعني المجال هنا لذكرها، والتي تبرهن لي أن النوم هو الذي يقتل كل شيء وأن الوقت لديه حظاً كبيراً لأن الجميع يعرفه بشيء ليس له، وإن الشاعر محمود درويش كان محقا حين قال: (تنُسى كأنك لم تكن).
اضافةتعليق
التعليقات