هي لحظة يندر ألا تمر بأحدنا على الرغم من اختلاف أعمارنا؛ مع شدة حرصنا ودقة تعاملاتنا، وإذ بها تنجح في النفاذ في تفاصيل أيامنا، فهي واقع لعدة ثوانٍ أو أكثر فإذا بنا ننسى مكان شيء قد وضعناه، فيعلو ملامحنا العجب ونتساءل: ترى كيف؟ ولماذا؟، وقد نتيه في البحث عن كلمة مناسبة ندرك يقيناً كوننا نحيط علماً باللفظ والمعنى؛ لكننا نعجز عن تذكرها.
لوهلة يصيبنا الذعر، هو مدار حقيقة لا نشير فيه إلى حالة من النسيان التي تتطلب جهداً لحلها أو علاجها، وليست من باب مرض الزهايمر أو فقدان الذاكرة الجزئي، إنما هي حالة النسيان التي تمر علينا جميعاً، هب أنك تتذكر ما يطرأ على النفس من وجع أو انزعاج حال نسيانها لأمر ما؛ مما يمر بها ابتداءً من دوائر أحداث صغيرة لربما لا يترتب عليها أثر بالغ على الفرد ومحيطه، إلى أحداث أكبر حجماً وأكثر وزناً..
هي لحظة يمكن فيها أن تنسى فتنقلب فيها الموازين لصالحك فتتحصل منها على منفعة؛ فقد تنسى وإذ بك تتذكر أن مصداق ذلك عدم الكمال التام للإنسان فتمجد مباشرة خالقك الذي لا رب سواه وإذ بكفة النسيان ترجح إلى خلوة خالصة.
من هناك إلى ذلك الحدث الصغير الذي تنسى فيه للحظة معلومة رغبت بتذكرها من كتاب ما، ثم بعد مدة من الزمن تبتهج لكونك قد تذكرت ما قد كنت ضعيفاً عن تذكره آنذاك، وإذ بك لا تتذكر فقط؛ بل وتلهج شاكراً بثناء خالق لك -محيط بكل شيء- وعالم فوق كل ذي علم الذي لا ينسى ويحيطك برعايته.
وإلى نطاق أبعد في مقابل ما سبق قد تبصر أننا ننسى أمواج من الأحداث التي رُزقنا النجاة من خطرها وصعوبتها، فنتعثر في شطآن اليأس والعجز لنسياننا تلك الشدة التي قد ضاق بنا رحب الأرض حينها؛ لكنها مضت، فتنهار منا القوى ويستعصي على الأذهان تقبل واقع الحياة من تقلب أحوالها وابتلاءاتها وامتحاناتها، فيحدث ألا يتقبلها أحدهم مع كونها حتمية، فقد يتصير نسياننا لمحور كهذا إلى كارثة تكدر علينا العيش فنضيع في صحراء الغفلة، إلا أن شجرة الصبار التي قد نمت في ساحة النسيان قد تطأ قدمك -نسياناً- عليها أيضاً فشوكها حينها سيدعوك إلى "واذكر ربك إذا نسيت" فينقبض قلبك فترجو وجود مدبر يكفي أن تعترف بعجزك له ثم تتوجه بتسليم لأمره، فهب أنك تنسى ثم تتذكر أنك تنسى ألطافاً سابقة لطالما غمرتك؛ فتسأل نفسك متى ستصير عابداً حقاً؟!
هي بعض مجريات كانت تبدأ بلحظة نسيان ولكنها تصير موعظة لأحدنا، عبرة، فكرة، ومزيد بصيرة. ما أكثر ما نسى الإنسان وقليل من قد يعتبر، إن الموعظة سوق كبير متعدد البضائع، متنوع الشراب للأرواح، ترتاده فيوقظك ويذكرك ويحييك، وقد باعك مراراً سلعة مرتفعة الجودة وهي النسيان؛ فكيف الحال بميزان مختلف في أن تذكر الله حين نسيانك، فتكون لحظة النسيان لحظة تتاجر فيها مع الموعظة فتربح أنت على الدوام إذ أنك أجدت صنعاً بشراء هكذا سلعة، ويبدو أنه قد لا يغيب عن ذهنك كثير من تسليط الضوء الذي وجه إلى النسيان إذ عرفه البعض بكونه نعمة!، فكأننا بين مد وجزر، فإن كان النسيان نعمة، فهل عساك سمعت بنعمة لا ينبغي أن تشكر؟!
ختاماً لاينضم إلى مضمون الحديث إباحة التهاون والخمول والإهمال لينتهي المطاف بإسراف بعضنا في تقصيره أو حتى جهله لتكون حجة وعذراً فينجرف لتكثر هفواته وأخطائه مع نفسه أو ربه أو علاقاته؛ لكن من باب السعي إلى تعويض الخطأ أو تداركه بما هو أحسن، هذا ونسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يعفو عنهم ويمن عليهم بتبديل سيئاتهم لحسنات فنكون من الفائزين بذلك.
اضافةتعليق
التعليقات