الصفحة الرئيسية العدد 71 اتصلوا بنا

 

الثقافة بين الاصالة و التطور

أنوار الموسوي

العقل هو الميزة التي يتمتع بها الإنسان، فإذا احتجب العقل وانحرف عن مساره الصحيح فإن الإنسان سوف لا يفقد ميزته هذه فحسب، وإنما سيهوي أيضاً إلى الدرك الأسفل، والسر في ذلك يكمن في أن هذه الميزة التي وهبها الله تعالى للإنسان جعلت في مقابل ميزات أخرى سلبت منه، فالإنسان لا يستطيع الطيران كالعقاب، وليس بإمكانه الجري بسرعة كالغزال.. ولكنه بدلاً من كل ذلك يمتلك العقل، وبهذا العقل يمكنه التغلب على جميع تلك الأحياء بل وعلى ما هو أضخم وأقوى منها كالجبال الشامخة، وأعماق المحيطات، وأغوار الفضاء المترامية.. فالعقل إذن هو الذي يميز الإنسان عن سائر الأحياء.

الثقافة أهم نتاجات العقل

وهنا لا بد أن نتوقف قليلاً لنتحدث عن أهم إفراز ونتاج للعقل ألا وهو (الثقافة) فالثقافة تمثل الخطوط العريضة لعقل الإنسان، فهي الاستراتيجية الفكرية الواضحة لهذا العقل، وعلى هذا الأساس فإن  الثقافة من أهم وأبرز مفردات ومفاهيم العقل، ومع ذلك فإن  الحديث عن الثقافة حديث ساذج وبسيط عادة في أجوائنا، في حين أن الثقافة تمثل أرضية السياسة، وهي قاعدة الأخلاق، ومنطلق المنهج الفكري، وهي  بالتالي الأساس الذي تبنى عليه سلوكيات الإنسان وقوانين الحياة، وقد أشار القرآن الكريم إلى (الثقافة) في سياق آياته معبراً عنها بـ (البصائر) أي الرؤى، أو مجموعة الأفكار والتصورات والمفاهيم التي تمثل الأرضية لنمو سائر الأفكار، والسلوكيات، والقيم.

نحن والثقافة

ومع ذلك فإن الحديث عن الثقافة في أوساطنا لم يحظ بالأهمية التي يستحقها، والسبب في ذلك أنه حديث صعب متشعب نخشى اقتحامه، لأنه ذو مزالق كثيرة؛ فنحن عادة لا نهتم بالمفردات الفكرية الصعبة لأننا نتحاشى الخوض فيها والتحدث عنها، ولعل أهم أسباب تخلف الأمة الإسلامية هو أنها لا تتحدث عن الثقافة ولا تطرحها في أجوائنا طرحاً موضوعياً، ولذلك نجد أمتنا الإسلامية متورطة في مجموعة ثقافات غير أصيلة أو مجموعة أفكار نقتبسها من الغرب أو الشرق دون أن نعرف ماذا تعني هذه الأفكار وما هي التأثيرات التي تتركها في حياتنا، فنحن عندما نقرأ صحيفة أجنبية أو كتاباً أو نستمع إلى الإذاعات، وعندما نجلس أمام شاشة التلفزيون لنشاهد فيلماً ما، لا يخطر على بالنا أن منتج الفيلم ينطلق في صياغة فيلمه من ثقافة معينة، ولنأخذ على سبيل المثال أفلام الكرتون التي يستغلها منتجوها لبث ثقافة ورؤى معينة، فعندما يجلس أبناؤنا أمام شاشة التلفزيون ليشاهدوا هذه الأفلام فإنهم سينجذبون إليها، وينجذبون نحوها من حيث لا يشعرون، ويتأثرون بثقافتها بشكل لا شعوري؛ فهذه الأفلام توحي بأفكار معينة لا تدع المشاهد يفهم ماذا يريد أن يقوله المؤلف وبالتالي تجعلك تؤمن بهذه الأفكار دون أن تشعر.

فلنسأل أنفسنا: ترى من أين جاءت الثقافة الغربية التي تأثر بها شبابنا إلى حد أننا نرى أن الأوضاع قد انقلبت رأساً على عقب في بلادنا، في حين أننا مشغولون بأفكار بعيدة عن واقعنا؟.

إن علينا أن ندرس التاريخ متجاوزين أجيال التخلف، فلنراجع سيرة رسولنا الكريم(ص)، ولنقف على منهج أئمتنا (ع) وأصحابهم المنتجبين؛ فالذي يمتلك القرآن يمتلك هدى ونوراً وضياءً وذكراً وبصيرة، ويكون في غنى عن الأفكار المتناقضة الجامدة الممزوجة بالأخطاء والضلال، فنحن نمتلك هذه الثقافة ونقف إجلالاً لأولئك الذين كتبوا هذه الثقافة بدمائهم وحافظوا عليها بأرواحهم حتى وصلت إلينا، هذه الثقافة هي ثقافتنا الأصيلة، وهي منهجنا، وينبوعنا، والركن الذي نستند إليه.

نتيجة الثقافة هي المهمة

فلنبحث عن النتيجة ولندع مثل هذه الثقافات التي هي مجموعة ثقافات شغلنا أنفسنا بها دون جدوى، في حين أننا لم نهتم بالقضايا الأساسية، ولم نولي أهمية للثقافات الحقيقية التي يشتمل عليها القرآن الكريم الذي لا يمكننا الاستغناء عنه في أي مرحلة من مراحل حياتنا، فهو يحتوي على الأفكار الأصيلة والضرورية لحياتنا، والروايات تولت مهمة تفسير القرآن، وإيضاحه، وبيان تفاصيل الحياة من خلاله، والروايات هي الجزء الثاني من الثقافة الإسلامية، كما أن التاريخ الإسلامي هو الأول، وسيرة المعصومين عليهم السلام والصالحين الذين أوضحوا أدق تفاصيل القرآن الكريم؛ فمن الأولى بنا أن نستهدي بهم، وهذا هو الجزء الثالث من ثقافتنا الإسلامية، وأما الجزء الرابع من ثقافتنا فيتمثل في ضرورات العصر؛ فهناك ثقافة غير مرتبطة بالوحي بل بالعقل لأن الحجة الإلهية على الناس كما أشار إلى ذلك الأئمة (ع) في أحاديثهم: (إن لله على الناس حجتين حجة ظاهرة وحجة باطنة، وأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة (ع)، وأما الباطنة فالعقول)(1) (والعقل نور بقذفه الله في قلب من يشاء).

إذن فهناك ثقافة مستوحاة من العقل تؤكد مصلحة الإنسان.

لا بد من أن نطور ثقافتنا

وعلى هذا الأساس فإن  الحياة تتطور؛ ولذلك لا بد من أن نطور ثقافتنا أيضاً بحسب تطور هذه الحياة، أما بالنسبة إلى الثقافة المرتبطة بالقرآن فإنها ثابتة، مثل العدالة الاجتماعية والحرية، وإزاء ذلك هناك أمور تتطور مع الظروف، وهي بحاجة إلى من يستنبطها ويحددها، ونحن كمسلمين يجب أن نبحث عنها لنعرف كيف يجب أن نعيش في هذا العصر، وللأسف فإن  من الأمور التي لا نهتم بها عادة عدم معرفتنا لواجبنا في هذا العصر، فلا نعرف إلى أين وصلت الدنيا.. (الكبار) يجتمعون، الرئيس الأمريكي يجتمع مثلاً مع رؤساء البلدان الغربية في واشنطن، ولكننا لا نهتم بمعرفة ماذا يخططون له، في حين أنهم يحسبون حساب بلداننا الإسلامية، ويخططون لها وفق مصالحهم، أما نحن فلا نهتم بالسياسة، ولا نعيرها اهتماماً.

إن الثقافة العصرية هي الثقافة التي ترسم لنا حياتنا وما ينبغي أن نفعل وهي قضية أساسية، أما بقية القضايا فهي ثانوية  لا تستحق أن نعيرها أهمية كبيرة، فعلينا إذن أن نترك الخوض في الأمور الثانوية، ولنواجه الزحف القادم إلينا من الشرق والغرب، فبلادنا محطمة وأوضاعنا متخلفة، وإن مثل الإنسان الذي يشغل نفسه في توافه الأمور، ويلهو عن قضاياه الأساسية، كمثل الشخص الذي تلتهم النيران بيته ثم يأتي إليه شخص آخر ليحدثه عن قصة خيالية بعيدة عن الواقع، بدلاً من أن يبادر إلى إطفاء النار، فهناك أناس في المجتمع يلهوننا ويجعلوننا نعيش بعيدين عن أوضاعنا وعن قضايانا الرئيسية، ومشاكلنا اليومية، عن اقتصادنا وسياستنا وأخلاقنا وثقافتنا وثقافة أبنائنا؛ ليحرفوا أذهاننا إلى قضية من القضايا الثانوية، وإلى موضوعات بعيدة عن واقع الحياة اليومية وعن حاجتنا، وكما حدثت هذه الحالة في بلادنا فإن  بلداناً أخرى عاشت مثل هذه  الظروف ولكنها خرجت منها، واستطاعت أن تكتشف أخطاءها، لتبرمج حياتها من جديد، أما نحن فبقينا على تخلفنا.. ويبقى القرآن الكريم المصدر الرئيسي لتشريعنا، وأفكارنا، وثقافتنا، وأخلاقنا، وقيمنا، وعلينا أن نستمد جميع مفردات ثقافتنا من القرآن، فالمشاكل التي نعاني منها منشأها ابتعادنا عن القرآن الذي يقول عنه الخالق تعالى: (قد جاءكم بصائر من ربكم)(2) فهذه الثقافة مستمدة من الله فلنتشبع بها، ولنتمثلها في حياتنا، ولنستنير بها في مسيرتنا الحياتية.

قدرتنا على التقويم

ومع ذلك فإننا بشر لا نختلف مطلقاً عن أولئك البشر الذين استطاعوا أن يخترعوا ويبتكروا تلك الآلات الحديثة؛ فنحن نمتلك من المواهب والاستعدادات ما يمكننا من الوصول إلى هذا المستوى، ونحن لم نسقط في مستنقع الجهل والتخلف إلا عندما تركنا التفكير، ووضعنا أدمغتنا في خانة الإهمال، وإذا ما حاولنا استغلال هذه القدرات والمواهب فإننا سنستطيع من الآن فصاعداً أن نغير المعادلة لصالحنا. إن علينا أن ندرك في هذا المجال أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق الناس طبقات: طبقة الأوروبيين البيض التي تفكر وتخطط وتضع وتقود، وطبقة الملوّنين الذين عليهم أن  يطبقوا أو يتبعوا أو يقلدوا، وبالتالي أن يكونوا مستعبدين، فهو عز وجل خلق الناس سواسية كأسنان المشط، كما يصرح بذلك الحديث الشريف، وكما يقول عز وجل أيضاً: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)(3) وكما يقول الحديث الشريف: (كلكم من آدم وآدم من تراب)(4).

وعلى هذا فإن  الثقة بالنفس وبالعقل هي بداية مرحلة التفكير، فعلى كل واحد منا أن يثق بنفسه وعقله، ولنحاول أن نجرب هذه الثقة، وعندما يصل تفكيرنا إلى نتيجة فعلينا أن نعرف أن تفكيرنا كان سليماً، وحينئذ من الواجب علينا أن نكثف ونزيد من تفكيرنا لكي ندخل المراحل الجديدة الأخرى، وتفتح أمامنا الآفاق الإبداعية الواسعة.

 والحمد لله رب العالمين.


الهوامش:

(1) الكافي: ج1 ص16.

(2) الأنعام: 104.

(3) الحجرات: 13.

(4) بحار الأنوار: ج67 ص286.